مذكرات أحمد باي، بوابة الجزائر |
مقدمة
يعتبر الحاج أحمد، باي قسنطينة الأخير، من ألمع وجوه المقاومة في الجزائر، ومن أكبر قادتها الذين أبلوا البلاء الحسن ضد جيوش فرنسا المحتلة في القرن التاسع عشر.
لقد اعترف له الكثير من الجنرالات بالدهاء العسكري، و حاول الماريشال فالي أن يتفق معه إقتناعا منه أن الرجل أهل للقيادة و لا يمكن أن يستسلم بسهولة.
و إذا كان المؤرخون الغربيون لم يعطوا له حقه، قاصدين بذلك تشويه تاريخنا الجزائري المجيد، و التمييز بين مختلف عناصر الشعب للتقليل من أمجاد ماضينا الحافل بالأمل و دوافع الأيمان بالمستقبل، فإن واجبنا نحن أن نزيح الغبار عن هذه الشخصية و أمثالها كابن سالم و ابن علال و حمدان خوجة و بومرزاق و بومعزة وبوبغلة و بوزيان و محمد الصغير بن أحمد بن الحاج ... و نخرج من طيات النسيان تلك الصفحات الخالدة التي كتبوها بدمائهم لنستوحي منها طريقنا نحو حياة أفضل.
لقد كان الحاج أحمد كرغليا، على حد تعبير المؤرخين الفرنسيين. ولكن المنطق يحتم علينا أن نؤكد عكس ذلك، فقد ولد بالجزائر من أب ولد في الجزائر و هو الرجل الذي وهب حياته دفاعا عن هذا الوطن و لا يعرف و طنا سواه.
أما عن حياته، فإن السيد أحمد بوضربة، عندما قدم مذكراته للجنة الإفريقية سنة 1833، يذكر بأن الباي كان يبلغ من العمر في ذلك الوقت 47 سنة، الأمر الذي يجعلنا نحدد تاريخ ازدياده بعام 1786. و قد كان يسمى باسم أمه فيقال الحاج أحمد بن الحاجة الشريفة.
و هي من أسرة بن قانة المعروفة في الصحراء. أبوه هو محمد الشرف خليفة حسن باي الذي تولى الحكم بعد صالح باي المتوفى سنة 1792م. و أما جده فهو الباي أحمد القلي الذي حكم قسنطينة مدة ست عشرة سنة إبتدأها عام 1755م، و الذي يقول عنه الحاج أحمد المبارك في "تاريخ حاضرة قسنطينة" أنه رجل عاقل صالح عليم بتسيير شؤون البلاد.
و قد نشأ أحمد في بيت أخواله، فشب على حياة البداوة، و تعلم الفروسية و تدرب على القتال فكان رجلا حاسما و شجاعا لا يعرف التردد عندما يجب الفصل في القضايا.
و هذه الصفات هي التي جعلت الإيالة تُعَيِّنه و هو لم يتجاوز الثلاثين خليفة لباي قسنطينة التي هي أكبر المقاطعات في الجزائر و أهما من عديد النواحي.
و لقد أظهر أحمد باي أثناء ممارسته هذه المسؤولية الجبارة مهارة كبيرة و خبرة واسعة في اكتساب ثقة الأهالي و ضمان تعاونهم معه بحث أنه، عندما و قع الخلاف بينه وبين رئيسه، وأمر هذا الأخير بحبسه، وجدناه يحظى بمساعدة أعيان المدينة و البايلك بصفة عامة لمغادرة المكان و التوجه إلى العاصمة بسلام.
و في منفاه ظل الباي متمسكا بسيرته الأولى، فكان يبرهن على شجاعته و تفانيه كل ما دعي للمساهمة في عمل من الأعمال. ففي البليدة، إستطاع أن يثير إعجاب يحي آغا باستقامته و إخلاصه وخاصة بعد الدور الذي لعبه أحمد أثناء الزلزال الذي أصاب المدينة سنة 1825. و لذلك رأينا الآغا، صاحب النفوذ و السلطان آنذاك يتدخل لدى الداي و يحصل للحاج على العفو في مرحلة أولى ثم على البايلك في مرحلة ثانية سنة 1826.
و هكذا تحصل أحمد باي على هذا المنصب باستحقاق. و بمجرد ما تسلم مسؤوليته الجديدة حتى ششرع في تنظيم الأمور و القضاء على الفوضى. و تبين من خلال هذه الأعمال أنه قائد مقتدر له من الدهاء السياسي و العسكري ما لم يتوفر لسابقيه. و لذلك تمكن من البقاء إثنتين و عشرين سنة على الرغم من المشاكل و المحن و المجهودات التي بذلتها فرنسا للقضاء عليه.
و سنفرد للحاج أحمد دراسة خاصة في وقت لاحق بحول الله. أما اليوم فسنكتفي بنشر مذكراته ذات القيمة التاريخية الجسيمة. و لقد سبق أن نشرها و علق عليها بالفرنسية مارسال أمريت في المجلة الإفريقية الصادرة سنة 1949. و لكن المذكرات نشرت أصلا بالعربية ثم تُرجِمت إلى الفرنسية في نسختين مختلفتين في الشكل لا في المضمون إلا أننا نعتقد أن نسخة أمريت هي الأتم و إليها رجعنا لإعادة المذكرات إلى نصها الأصلي أي العربية. و ما لجأنا لذلك إلا بعد أن يئسنا من وجود النسخة الأصلية بالعربية.
مذكرات أحمد باي، الجزء الأول
في سنة 1830 ذهبت إلى مدينة الجزائر لأداء الدنوش أو الزيارة الإجبارية التي يؤديها إلى الباشا جميع البايات مرة كل ثلاث سنوات. كنت بايا لقسنطينة منذ أربعة أعوام، و كانت تلك هي المرة الثانية التي أقوم بهذا الواجب. فلم أكن إذا مستعدا أي استعداد لمحاربة الفرنسيين، ومع ذلك كان الداي حسين قد أخبرني بمشاريعهم [ نواياهم بالهجوم على الجزائر ] في رسالة ذكر لي فيها أنه يجب أن أهتم بعنابة فقط. ولم يكن قلقا لا على نفسه ولا على مدينته الرئيسية [ الجزائر ]. و هكذا جئت كالعادة أحمل "اللازمة" و معي أربعمائة فارس أو أقل. و أذكر من جملة القادة الذين اصطحبوني ولد مقران و حملاوي آغا و شيخ النغاس، قائد الزمالة، الوردي، قائد بن عاشور، و شيخ بو شناح.
و عندما حضرت بين يدي الباشا قال لي: "ليس لديكم أكثر من الوقت الكافي للخروج إلى الفرنسيين الذين سينزلون بسيدي فرج، إنني أعرف مكان النزول من الرسائل التي تصلني من بلادهم و من كتاب طُبِع في فرنسا و أرسله لي جواسيسي من مالطة و جبل طارق" ثم أضاف بأن الرسائل ترد إليه باستمرار من فرنسا و أنه على علم بكل ما يجري هناك.
غادرت مدينة الجزائر بسرعة، و اتجهت إلى المكان الذي تجمع فيه الجيش و عقدنا مجلسا لتحديد خطتنا للدفاع عن البلاد، و شارك معي في هذا المجلس الآغا إبراهيم، صهر الداي، و مطفى باي التيطري، و خوجة الخيل، و خليفة باي الغرب.
وقعت الندوة في مكان قريب من سيدي فرج، و ابتدأ صهر الداي هكذا: "يجب بناء حصون على شاطئ البحر و تزويدها بمدافع قوية حتى نمنع الفرنسيين من النزول".
و أجبت بأن هذا الرأي سديد و لكننا لا نستطيع العمل به حينا، كما تقترحون ذلك، لأنكم لا تملكون الوسائل التي تمكنكم بسرعة من إقامة الحصون التي أشرتم إليها و بالفعل فكيف تحملون إلى هنا المدافع و الذخائر الحربية التي تحتاجون إليها و ليس في سيدي فرج سوى قلعة قديمة مخربة يحتاج إصلاحها إلى شهور كاملة. لقد استيقظتم متأخرين، و في نظري إذا، فإنه لا ينبغي أن تنهكوا أنفسكم في صد نزول الفرنسيين، و من المستحسن أن تبدوا بعض المقاومة و تهاجموهم بحيث تعرقلون النزول.
و لكننا إذا و ضعنا كل ثقتنا في إقامة التراسين و الحصون، فإنكم لن تنتصروا، لأن نيران المراكب الفرنسية ستقضي على هذه المنجزات المقامة على عَجَل وتكون أعمالكم قد ذهبت سدى. ثم إنكم لا يمكنكم تسليح الحصون دون تعرية مدينة الجزائر التي ينبغي أن تهتموا كل الإهتمام بالدفاع عنها.
و إذا استطعنا أن نفسد خطة الفرنسيين بواسطة المعركة الصغيرة التي سنشنها عليهم أثناء النزول، فإننا نحمد الله ونشكره على مؤازرته لنا. و إذا لم نتمكن من التصدي لنزولهم، فإنه يجب على الجيش أن ينسحب إلى مؤخرة جيوش الأعداء ثم نطأ البحر من الجهة الغربية.
وتذكروا شيئا، فإن الفرنسيين يريدون إنهاء هذه الحرب بكل سرعة و إرجاع الجيش إلى أوروبا. إنهم من بني الأصفر ذوي الوجوه الشاحبة الذين يصعب عليهم تحمل مناخ هذه البلاد. و عندما نمدد الحرب في الزمن فمعنى ذلك أننا نحقق النصر لا محالة، و يصيب أعداءنا ما أصاب جميع الذين نزلوا هنا من قبل: إن الله كان دائما بجانب المؤمنين على الكافرين الذين يأتون لمهاجمة المدينة الموضوعة تحت حمايته. و هذه المرة أيضا، فإنه لن يتخلى عنا.
و لاحظوا أن الفرنسيين لن يلحقوا ضررا بالمناطق التي سيمرون بها لأن أراضيها تكاد تكون غير مزروعة و ليس فيها إلا عدد قليل من المساكن و البساتين.
و إذا وثقتم بي و اتبعتم خطتي فإننا سنتجه إلى وادي مازافران، و عندها يقع أحد الأمرين: إما أن يهاجم الفرنسيون مدينة الجزائر أو يسيروا نحونا. ففي الحالة الأولى ننقض على مؤخرتهم و نأخذ مؤونتهم و نهاجم قوافلهم فنقتل المتخلفين منهم و نعمل على قطع الإتصال بينهم و بين مراكبهم، و هذه النقطة الأخيرة سهلة جدا لأن حال البحر يتغير و لا يسمح دائما بالنزول. أما إذا ساروا نحونا لمهاجمتنا فإن واجبنا هو أن نتجنب المعركة و نجر جيوشهم إلى ميدان ملائم و بعيد عن مدينة الجزائر التي هي هدفهم.
و إنكم لا تجهلون كم سيفقد الفرنسيون من الجنود أثناء ملاحقتهم لنا نتيجة للحرارة و قلة الماء و انعدام كثير من الأشياء الأخرى التي تعودوا عليها و التي لا يمكن أن تتسع لها مراكبهم. هذا بالإضافة إلى أننا نكون قد حافظنا على مدينة الجزائر. إذا فرأيي هو الرجوع إلى الوراء.
و أجاب صهر الباشا بحمية جاهلية و ثقة مزهوة في نجاح الخطة، و أن عدم مجابهة العدو ليس من عمل الرجال الشهام، و أن الله لن يغفل عن مساعدة من سيهاجمون الكفرة عند نزولهم و هم به واثقون.
و أثر هذا اللجوء إلى الله تأثيرا كبيرا على عقول الحاضرين. و استَعْمَلتُ نفس الوسيلة و أردت حملهم على أن يتركوا تحت رعاية الإله يفعل بها ما يشاء لكنهم عارضوني و تقرر أن يسيروا لمجابهة الفرنسيين. و هكذا شرع ببناء المتاريس بسيدي فرج، و لكنها لم تسلَّح إلا بمدافع خفيفة لعدم وجود العربات التي يمكن أن تحمل المدافع ذات العيار الكبير.
و تم النزول، و بعد انتصار الفرنسيين على مقاومتنا، تقرر التراجع و انتظارهم في سهل اسطاوالي حيث بنينا حصونا بسرعة و زودناها ببعض المدافع. و كان الباشا قد وزع عددا كذلك منها على جميع الأعيان الذين كانوا يقودون الجيش و على من كانوا مثلي قادمين من مناطق بعيدة. و قد خسرنا هذه المدافع في معركة اسطاوالي التي ربحها الفرنسيون. و كان مدفعي قد سقط مرة أولى بين أيديهم، و لكنني جمعت فرساني و هاجمنا فخسرنا أكثر من مائتي جندي، و لكن الله مكنني من الإنسحاب و معي المدفع الذي أعطيت.
و بعد معركة اسطاوالي، هاجم الفرنسيون برج مولاي حسان، و كنت إذ ذاك قد انسحبت إلى المكان المسمى وادي القليعة و سقط البرج خرابا بفعل البارود، ثم استسلم الباشا للفرنسيين الذين دخلوا من غدهم مدينة الجزائر. عندئذ إنسحبت مع فرساني إلى عين الرباط ( مصطفى باشا )، و واصلت سيري نحو جنان الباشا ( مستشفى مايو حاليا ) حيث لحق بي جميع المنسحبين، فاصبح معي ألف و ستمائة شخص. و في مساء يوم الإحتلال إنسحبت إلى قنطرة الحراش حيث قضيت الليلة على الضفة الأخرى للوادي.
و في الغد توجهت إلى الخميس ( خميس الخشنة ) و عسكرت في الفندق. و أثناء اليل وقع إنذار و أعلن عن ظهور طلائع الجيش الفرنسي، فركبت حصاني على الفور واصطحبت أربعين من فرساني و لكن الإنذار كان خطأ. و واصلت طريقي، و عندما بلغت أولاد زيتون، وصلتني رسالة من الجنرال الفرنسي المسمى بورمون ( هو دوبرمون، قائد الحملة العسكرية ضد الجزائر و صاحب معاهدة 5 جويلية ).
يقول لي بورمون في رسالته: إن الفرنسيين قد خلفوا حسين باشا في الحكم، و أنني أحتفظ بمنصب باي قسنطينة إذا رضيت أن أدفع لفرنسا "اللازمة" التي كنت أدفعها للداي، أي باختصار، إذا قبلت الإستسلام. و أجبت بأن السلطة تسلمتها من حسين برضا جميع سكان قسنطينة و مقاطعتها، و أنني راجع إلى مركز قيادتي، و إذا كانت إرادة قادة قسنطينة تتفق مع رغبة الجنرال الفرنسي، فإنني سأقبلها بكل سرور.
إنتهت هذه المفاوضات عند هذا الحد، و توجهت إلى قسنطينة عن طريق الأعمال و البيبان، ثم بلغت منطقة العوامر بالقرب من سطيف، و بعد 22 يوما من السير، منذ غادرت مدينة الجزائر، وصلت إلى المكان الذي يسمي الحامة ( حامة بوزيان حاليا ) بنواحي قسنطينة.
أثناء غيابي عن قسنطينة، دُبِّرت مؤامرة ضدي. لقد تركت في المدينة حامية الشتاء و هي مكونة من الأتراك و اليولداش، فأراد هؤلاء الأجناد أن يقلدوا ما كان قد جرى في مدينة الجزائر و أعلنوا أنهم لم يعودوا يعترفون بي كباي و عينوا مكاني القائد سليمان، الباي الذي قاد المؤامرة بمساعدة خليفته ولد شكال محمود و عبد الله خوجة و اسطنبولي و جيمي علي و وزان أحمد و زميرلي بشير و ضبيات علي.
و عندما علموا بمقدمي، أرادوا أن يثيروا علي القبائل المقيمة في نواحي سطيف و لكنني هزمت من خرج إلي و قصدت قشنطينة التي غادرها المتآمرون ليعترضوا سبيلي، و بمجرد ما خرجوا من المدينة، إجتمع الطلبة و السكان بسرعة تحت قيادة الباشا حمبا كيمان بن عيسى و ألقوا القبض على سليمان و قتلوه أمام باب المدينة. و هكذا لم ألاق أي عناء لاسترجاع سلطاني، و لكني أردت أن أضرب مثلا فوضعت يدي على المجرمين، و وفقا للقانون حكمت عليهم بالإعدام و نفذت الحكم فيهم.
و بعد ذلك قررت أن أضع حدا للمناورات المستمرة التي يقوم بها الأتراك و اليولداش و خشي الكثير منهم نقمتي العادلة فلتجؤوا إلى العرب. فكتبت إلى كل الجهات أقول: "تحللوا من هؤلاء الأجانب الذين لا يحملون إليكم سوى البلبلة و يمنعون الحاكم من أن يحقق الخير الذي يريده لكم". و وجدت هذه الكلمات آذانا صاغية فدفع كثير من اليولداش ثمن الطغيان اكذي فرضوه على البلاد زمنا طويلا.
و عندما حضرت بين يدي الباشا قال لي: "ليس لديكم أكثر من الوقت الكافي للخروج إلى الفرنسيين الذين سينزلون بسيدي فرج، إنني أعرف مكان النزول من الرسائل التي تصلني من بلادهم و من كتاب طُبِع في فرنسا و أرسله لي جواسيسي من مالطة و جبل طارق" ثم أضاف بأن الرسائل ترد إليه باستمرار من فرنسا و أنه على علم بكل ما يجري هناك.
غادرت مدينة الجزائر بسرعة، و اتجهت إلى المكان الذي تجمع فيه الجيش و عقدنا مجلسا لتحديد خطتنا للدفاع عن البلاد، و شارك معي في هذا المجلس الآغا إبراهيم، صهر الداي، و مطفى باي التيطري، و خوجة الخيل، و خليفة باي الغرب.
وقعت الندوة في مكان قريب من سيدي فرج، و ابتدأ صهر الداي هكذا: "يجب بناء حصون على شاطئ البحر و تزويدها بمدافع قوية حتى نمنع الفرنسيين من النزول".
و أجبت بأن هذا الرأي سديد و لكننا لا نستطيع العمل به حينا، كما تقترحون ذلك، لأنكم لا تملكون الوسائل التي تمكنكم بسرعة من إقامة الحصون التي أشرتم إليها و بالفعل فكيف تحملون إلى هنا المدافع و الذخائر الحربية التي تحتاجون إليها و ليس في سيدي فرج سوى قلعة قديمة مخربة يحتاج إصلاحها إلى شهور كاملة. لقد استيقظتم متأخرين، و في نظري إذا، فإنه لا ينبغي أن تنهكوا أنفسكم في صد نزول الفرنسيين، و من المستحسن أن تبدوا بعض المقاومة و تهاجموهم بحيث تعرقلون النزول.
و لكننا إذا و ضعنا كل ثقتنا في إقامة التراسين و الحصون، فإنكم لن تنتصروا، لأن نيران المراكب الفرنسية ستقضي على هذه المنجزات المقامة على عَجَل وتكون أعمالكم قد ذهبت سدى. ثم إنكم لا يمكنكم تسليح الحصون دون تعرية مدينة الجزائر التي ينبغي أن تهتموا كل الإهتمام بالدفاع عنها.
و إذا استطعنا أن نفسد خطة الفرنسيين بواسطة المعركة الصغيرة التي سنشنها عليهم أثناء النزول، فإننا نحمد الله ونشكره على مؤازرته لنا. و إذا لم نتمكن من التصدي لنزولهم، فإنه يجب على الجيش أن ينسحب إلى مؤخرة جيوش الأعداء ثم نطأ البحر من الجهة الغربية.
وتذكروا شيئا، فإن الفرنسيين يريدون إنهاء هذه الحرب بكل سرعة و إرجاع الجيش إلى أوروبا. إنهم من بني الأصفر ذوي الوجوه الشاحبة الذين يصعب عليهم تحمل مناخ هذه البلاد. و عندما نمدد الحرب في الزمن فمعنى ذلك أننا نحقق النصر لا محالة، و يصيب أعداءنا ما أصاب جميع الذين نزلوا هنا من قبل: إن الله كان دائما بجانب المؤمنين على الكافرين الذين يأتون لمهاجمة المدينة الموضوعة تحت حمايته. و هذه المرة أيضا، فإنه لن يتخلى عنا.
و لاحظوا أن الفرنسيين لن يلحقوا ضررا بالمناطق التي سيمرون بها لأن أراضيها تكاد تكون غير مزروعة و ليس فيها إلا عدد قليل من المساكن و البساتين.
و إذا وثقتم بي و اتبعتم خطتي فإننا سنتجه إلى وادي مازافران، و عندها يقع أحد الأمرين: إما أن يهاجم الفرنسيون مدينة الجزائر أو يسيروا نحونا. ففي الحالة الأولى ننقض على مؤخرتهم و نأخذ مؤونتهم و نهاجم قوافلهم فنقتل المتخلفين منهم و نعمل على قطع الإتصال بينهم و بين مراكبهم، و هذه النقطة الأخيرة سهلة جدا لأن حال البحر يتغير و لا يسمح دائما بالنزول. أما إذا ساروا نحونا لمهاجمتنا فإن واجبنا هو أن نتجنب المعركة و نجر جيوشهم إلى ميدان ملائم و بعيد عن مدينة الجزائر التي هي هدفهم.
و إنكم لا تجهلون كم سيفقد الفرنسيون من الجنود أثناء ملاحقتهم لنا نتيجة للحرارة و قلة الماء و انعدام كثير من الأشياء الأخرى التي تعودوا عليها و التي لا يمكن أن تتسع لها مراكبهم. هذا بالإضافة إلى أننا نكون قد حافظنا على مدينة الجزائر. إذا فرأيي هو الرجوع إلى الوراء.
و أجاب صهر الباشا بحمية جاهلية و ثقة مزهوة في نجاح الخطة، و أن عدم مجابهة العدو ليس من عمل الرجال الشهام، و أن الله لن يغفل عن مساعدة من سيهاجمون الكفرة عند نزولهم و هم به واثقون.
و أثر هذا اللجوء إلى الله تأثيرا كبيرا على عقول الحاضرين. و استَعْمَلتُ نفس الوسيلة و أردت حملهم على أن يتركوا تحت رعاية الإله يفعل بها ما يشاء لكنهم عارضوني و تقرر أن يسيروا لمجابهة الفرنسيين. و هكذا شرع ببناء المتاريس بسيدي فرج، و لكنها لم تسلَّح إلا بمدافع خفيفة لعدم وجود العربات التي يمكن أن تحمل المدافع ذات العيار الكبير.
و تم النزول، و بعد انتصار الفرنسيين على مقاومتنا، تقرر التراجع و انتظارهم في سهل اسطاوالي حيث بنينا حصونا بسرعة و زودناها ببعض المدافع. و كان الباشا قد وزع عددا كذلك منها على جميع الأعيان الذين كانوا يقودون الجيش و على من كانوا مثلي قادمين من مناطق بعيدة. و قد خسرنا هذه المدافع في معركة اسطاوالي التي ربحها الفرنسيون. و كان مدفعي قد سقط مرة أولى بين أيديهم، و لكنني جمعت فرساني و هاجمنا فخسرنا أكثر من مائتي جندي، و لكن الله مكنني من الإنسحاب و معي المدفع الذي أعطيت.
و بعد معركة اسطاوالي، هاجم الفرنسيون برج مولاي حسان، و كنت إذ ذاك قد انسحبت إلى المكان المسمى وادي القليعة و سقط البرج خرابا بفعل البارود، ثم استسلم الباشا للفرنسيين الذين دخلوا من غدهم مدينة الجزائر. عندئذ إنسحبت مع فرساني إلى عين الرباط ( مصطفى باشا )، و واصلت سيري نحو جنان الباشا ( مستشفى مايو حاليا ) حيث لحق بي جميع المنسحبين، فاصبح معي ألف و ستمائة شخص. و في مساء يوم الإحتلال إنسحبت إلى قنطرة الحراش حيث قضيت الليلة على الضفة الأخرى للوادي.
و في الغد توجهت إلى الخميس ( خميس الخشنة ) و عسكرت في الفندق. و أثناء اليل وقع إنذار و أعلن عن ظهور طلائع الجيش الفرنسي، فركبت حصاني على الفور واصطحبت أربعين من فرساني و لكن الإنذار كان خطأ. و واصلت طريقي، و عندما بلغت أولاد زيتون، وصلتني رسالة من الجنرال الفرنسي المسمى بورمون ( هو دوبرمون، قائد الحملة العسكرية ضد الجزائر و صاحب معاهدة 5 جويلية ).
يقول لي بورمون في رسالته: إن الفرنسيين قد خلفوا حسين باشا في الحكم، و أنني أحتفظ بمنصب باي قسنطينة إذا رضيت أن أدفع لفرنسا "اللازمة" التي كنت أدفعها للداي، أي باختصار، إذا قبلت الإستسلام. و أجبت بأن السلطة تسلمتها من حسين برضا جميع سكان قسنطينة و مقاطعتها، و أنني راجع إلى مركز قيادتي، و إذا كانت إرادة قادة قسنطينة تتفق مع رغبة الجنرال الفرنسي، فإنني سأقبلها بكل سرور.
إنتهت هذه المفاوضات عند هذا الحد، و توجهت إلى قسنطينة عن طريق الأعمال و البيبان، ثم بلغت منطقة العوامر بالقرب من سطيف، و بعد 22 يوما من السير، منذ غادرت مدينة الجزائر، وصلت إلى المكان الذي يسمي الحامة ( حامة بوزيان حاليا ) بنواحي قسنطينة.
أثناء غيابي عن قسنطينة، دُبِّرت مؤامرة ضدي. لقد تركت في المدينة حامية الشتاء و هي مكونة من الأتراك و اليولداش، فأراد هؤلاء الأجناد أن يقلدوا ما كان قد جرى في مدينة الجزائر و أعلنوا أنهم لم يعودوا يعترفون بي كباي و عينوا مكاني القائد سليمان، الباي الذي قاد المؤامرة بمساعدة خليفته ولد شكال محمود و عبد الله خوجة و اسطنبولي و جيمي علي و وزان أحمد و زميرلي بشير و ضبيات علي.
و عندما علموا بمقدمي، أرادوا أن يثيروا علي القبائل المقيمة في نواحي سطيف و لكنني هزمت من خرج إلي و قصدت قشنطينة التي غادرها المتآمرون ليعترضوا سبيلي، و بمجرد ما خرجوا من المدينة، إجتمع الطلبة و السكان بسرعة تحت قيادة الباشا حمبا كيمان بن عيسى و ألقوا القبض على سليمان و قتلوه أمام باب المدينة. و هكذا لم ألاق أي عناء لاسترجاع سلطاني، و لكني أردت أن أضرب مثلا فوضعت يدي على المجرمين، و وفقا للقانون حكمت عليهم بالإعدام و نفذت الحكم فيهم.
و بعد ذلك قررت أن أضع حدا للمناورات المستمرة التي يقوم بها الأتراك و اليولداش و خشي الكثير منهم نقمتي العادلة فلتجؤوا إلى العرب. فكتبت إلى كل الجهات أقول: "تحللوا من هؤلاء الأجانب الذين لا يحملون إليكم سوى البلبلة و يمنعون الحاكم من أن يحقق الخير الذي يريده لكم". و وجدت هذه الكلمات آذانا صاغية فدفع كثير من اليولداش ثمن الطغيان اكذي فرضوه على البلاد زمنا طويلا.
ويليه الجزء الثاني
خالي من تواريخ
ردحذف💪💪💪💪👍👍👍👍
ردحذفاحمد باي هو رمز الكفاح
ردحذف