مقاومة أحمد باي - الجزء الثالث

 

مقاومة أحمد باي  - الجزء الثالث

تكملة للجزئين الجزء الأول والجزء الثاني


قتال الفرنسيين ورفض المعاهدات

كان القائد العام الفرنسي عندئذ م داريمون الذي حل بعنابة قادما من الجزائر استعدادا للحملة. رفض الحاج أحمد اقتراحات الفرنسيين وخرج لقتالهم في مكان يدعى بلاد عمر. وهناك أرسل إليه دامريمون يهوديا آخر هو بوجناح (الذي كان في زي فرنسي) عارضا عليه دفع مليونين من الفرنكات ضريبة حرب , وإقامة حامية فرنسية في قصبة قسنطينة، في مقابل أن تعترف به فرنسا بايا على الإقليم فيما وراء مجاز عمار، أي باستثناء الأجزاء التي تحتلها هي. ولكن أعيان قسنطينة ورؤساء القبائل رفضوا الشروط الفرنسية. وأرسل الحاج أحمد رفضه إلى دامريمون عن طريق بوجناح. وعاد بوجناح بشروط أخرى ولكن الحاج رفضها أيضا وأرسل رفضه مع كاتبه هذه المرة لأنه لم يعد يثق في بوجناح.

لم يرض الحاج أحمد أن يوقع معاهدة مع الفرنسيين كما فعل الأمير عبد القادر في نفس السنة، بل استعد للقتال من جديد، جمع شيوخ القبائل والقواد وجند منهم 5،000 فارس و2،000 راجل، بالإضافة إلى الجيش النظامي الذي يعمل بأمره شخصيا. ترك حوالي 1،500 جندي في قسنطينة وبدأ الحرب ضد الفرنسييين، فهاجمهم مدة ثلاثة أيام متواصلة في معسكرهم الواقع في مجاز عمار. لكنه فشل هذه المرة في صد زحفهم على المدينة. فقد تمكنوا من نصب الحصار عليها ثم دخلوها بينما كان المراطنون يحاربونهم من دار إلى دار ومن شارع إلى شارع. وأثناء هذه الجولة قتل دامريمون القائد العام للجيش الفرنسي فتولى مكانه الجنرال فاللي. كما قتل البجاوي خليفة الحاج أحمد في قسنطينة. وتكبد الحاج أحمد خسائر كبيرة واستشهد أحسن جنده. وغنم الفرنسيون أشياء كثيرة لأن الحاج أحمد رفض إخراج الأشياء الثمينة من المدينة، عندما طلب منه ذلك الأعيان، حتى لا يؤثر ذلك على معنوياتهم. كذلك خسر الفرنسيون الجنود والعتاد وكانوا يعانون من قلة المؤونة. ومن سوء حظ الحاج أحمد أن ابن عيسى الذي كان عضده الأيمن تخلى عنه وعرض خدماته على الفرنسيين.

ولكن الحاج أحمد لم يلق السلاح رغم ضياع عاصمته وملكه، عرضت عليه فرنسا الأمان وحمله إلى بلاد إسلامية فرفض. وضع خطة جديدة لمقاومة الفرنسيين وقطع خط التموين عليهم الرابط بين عنابة وقسنطينة. ولكن صهره اعترض على هذه الخطة وأراد أن يحارب فرحات ابن سعيد أولا ثم الفرنسيين. وهي الخطة التي كان فيها (هلاكى) حسب تعبيره. وقد اجتمعت عليه عدة عوامل سيئة: موت أو تخلى أحد قواده عنه. خلافه مع صهره بوعزيز والتحاق هذا بالفرنسيين الذين عينوه شيخ العرب. محاولة الأمير عبد القادر مد نفوذه إلى إقليم قسنطينة بتوجيه نداء إلى أعيانه وتعيين خلفاء له فيه أمثال حسن بن عزوز. فرحات بن سعيد الذي لم ينس عزله له حتى بعد سقوطه (أي الحاج أحمد) من الحكم. وباي تونس الذي كان يغار منه ويكيد له لدى القبائل المجاورة ولدى السلطان، ثم فرنسا التي كانت ترى في وجوده بين العرب علامة خطر وكانت تؤلب عليه القبائل وتخلق له الصعوبات أينما حل. ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة سلبية السلطان الذي كان الحاج أحمد يعتمد عليه حتى بعد سقوطه .

ظل الحاج أحمد يقاوم كل هذه العوامل من سقوط قسنطينة سنة 1837 إلى نفاد مقاومته في صيف 1848.كان ينتقل من قبيلة إلى أخرى، ومن الجبل إلى الصحراء. وبينما كان في جبل أحمر خدو اتصلت به السلطات الفرنسية في باتنة وبسكرة وعرضت عليه الاستسلام وإعادة كل أشيائه إليه وأخذه ليعيش في بلاد إسلامية. فقبل العرض بعد أن كبرت سنه ووهنت قواه ومن بسكرة ذهب إلى باتنة (في 5 يونيه عام 1848) ومنها إلى قسنطينة عاصة ملكه القديم التي عاد إليها هذه المرة مجردا من السلاح ولكنه كان مشحونا بالذكريات. استقبله أعيانها عند مدخلها ودخل إليها وسطهم في كوكبة من الخيل. وأقام فيها ثلاثة أيام كان فيها محل رعاية خاصة، فكان أهلها يأتون إليه كل يوم بالطعام والملابس والعسل والزبدة والفاكهة وبعض مصنوعاتهم. ولكن السلطات الفرنسية خشيت العاقبة فمنعت الأعيان من فعل ذلك وأحضرتهم أمام المحاكم العسكرية.

غدر فرنسا

وعن طريق سكيكده وصل الحاج أحمد إلى العاصمة. وهناك عينت له السلطات الفرنسية دارا له ولأهله وخصصت له مبلغ 12،000 فرنك سنويا. وعينت له أحد المترجمين لمرافقته وهو الضابط دي روزي Rouzé وبدل تنفيذ الوعد بإطلاق حريته ظل سجينا في الجزائر إلى أن مات سنة 1850 ويوجد قبره الآن في زاوية سيدي عبد الرحمن الثعالبي وسط مدينة الجزائر. ولعل موته لم يكن طبيعيا.

حاول الحاج أحمد إقامة دولة تعتمد على تأييد السلطان وتأييد الارستقراطية المحلية. فحافظ على النظام العثماني ونشد مساعدة السلطان حتى يعطي لحكمه الشرعية والهيبة. وبعد احتلال الجزائر حاول الحاج أحمد أن يوسع قاعدة حكمه بتأييد الجماهير له، فكان لا يقرر شيئا هاما إلا بالرجوع إلى الأعيان وشيوخ القبائل والعلماء والجيش. وإذا كان في الفترة الأولى قد اعتمد على الجند العثماني فانه بعد الاحتلال قد غير رأيه وتخلص من هذا الجند معتمدا على العرب الذين أراد أن يخلق منهم دولة يكونون هم سادتها.  كان هدف الحاج أحمد باي إقامة دولة تفرض الأمن والاستقرار، والدولة في نظره كانت وسيلة للسلطة.  لكنه خالف الأمير عبد القادر في كون ثورته محلية، بينما سعى الأمير في مقاومته وجهاده لإقامة دولة وطنية شاملة.







مقاومة أحمد باي - الجزء الثاني

مقاومة أحمد باي  - الجزء الثاني

 

تكملة الجزء الأول


عداوة ذوي القربى أشد مضاضة

بعد السيطرة على الموقف في قسنطينة التفت الحاج أحمد إلى خصومه الذين تخلص من بعضهم بمساعدة الظروف، ولكن بعضهم ظل كالشوكة في حلقه. فقد خرج لمحاربة إبراهيم وفرحات بن سعيد. فر الأول إلى عنابة عن طريق تونس والثاني إلى أولاد جلال في أعماق الصحراء حيث ظل يحارب بدون هوادة، وكان إبراهيم في عنابة قد تواطأ مع الفرنسيين أولا ثم أعلن الحرب عليهم وأخرجهم من المدينة ولكن ابن عيسى مساعد الحاج أحمد حاربه واضطره إلى الهروب. ثم تحولت المعركة على عنابة بين ابن عيسى والفرنسيين. وعندما أيقن ابن عيسى من تغلب الفرنسيين عليه خرج منها هو وسكانها ودخلها الفرنسيون من جديد واستقروا بها بعد سنتين من احتلال الجزائر.  وقد كان احتلالهم لعنابة، أهم مواني إقليم قسنطينة، سببا في توتر مستمر بين فرنسا والحاج أحمد. وقد عين الفرنسيون على عناية يوسف المملوك. أما إبراهيم فقد احتمى بالجبال وواصل مقاومته للحاج أحمد إلى سنة 1834، وكان في نفس الوقت يحارب الفرنسيين. ثم التجأ إلى مدينة المدية حيث مات، ويقال إنه اغتيل من عملاء الحاج أحمد. وإذا كان الفرنسيون قد خلصوا الحاج أحمد من خصمه بومرزاق حين أسروه ونفوه إلى الاسكندرية (خريف 1830)، فان ابنه سي أحمد قد انضم إليه (إلى الحاج أحمد) وأصبح خليفة له ورشحه أن يكون صهرا له. غير أن سي أحمد كان مغامرا ففر من عنده والتجأ إلى الأمير عبد القادر.

خذلان السلطان

رغم محاولات الحاج أحمد الحصول على نجدة عاجلة من السلطان فان جهوده لم تنجح، على الأقل في الوقت المناسب. فقد عاد إليه الوفد الذي أرسله برد غامض من السلطان يحمل توقيع رؤوف باشا. فالسلطان في حالة سلم مع الدول المسيحية ولا يمكنه إعلان الحرب على فرنسا بسبب قضية الجزائر، أو بالأحرى قضية قسنطينة ولكنه طلب من الحاج أحمد أن يستمر في نضاله ضد الفرنسيين وأن لا يوقع أي صلح معهم إلا بعد مشاورته. والجدير بالذكر أن وفد الحاج أحمد قد نزل س البحر في طرابلس ومنها فيما يبدو، إلى قسنطينة عن طريق الصحراء، لأن باي تونس لم يكن صديقا لباي قسنطينة. ولكن الحاج أحمد لم ييأس وأرسل وفدا آخر إلى السلطان يقوده السيد بلهوان الذي كان يحمل رسالة إلى رؤوف باشا الوزير الأول. وألح الحاج أحمد في رسالته على طلب المساعدة المادية وأعلن أنه مستعد للتضحية من أجل الدين، وأن الفرنسيين يقتربون منه يوما بعد يوم. ولكن رؤوف قد استقبل بلهوان استقبالا باردا ووعده بإرسال مندوب عنه إلى قسنطينة ليتقصى الأمر. فكان هذا لمندوب هو كامل بك. وقبل وصول كامل بك إلى قسنطينة جرت اتصالات بين الحاج أحمد وبين القائد الفرنسي العام في الجزائر، الدوق دي روفيغو للتفاوض، فقد حمل إليه حمدان بن عثمان خوجا في صيف سنة 1832 رسالة من الدوق محتواها الاستسلام لفرنسا ودفع ثلاثة ملايين فرنك ضريبة حرب ودفع اللازمة السنوية، في مقابل أن تعترف به فرنسا بايا على إقليم قسنطينة.

جمع الحاج أحمد أعيان المدينة، بحضور خوجا، وأطلعهم على رسالة الدوق، وبعد المنافثة استقر رأيهم على دفع اللازمة على شرط أن تعيد فرنسا الأراضي التي احتلتها من الإقليم، ولا سيما ميناء عنابة، وإقامة قنصل فرنسي في عنابة، وعدم القدرة على دفع ضريبة الحرب. ولكن ذلك كله كان مرهونا بارادة السلطان الذي يجب أن يتصل به الفرنسيون مباشرة. حمل خوجة رأي أعيان قسنطينة إلى الدوق ثم رجع برسالة أخرى تحمل الشروط التالية: دفع 50،000 دورو، واللازمة السنوية، وتعهدت فرنسا بالحصول على القفطان للحاج أحمد من اسطانبول، ولكنها اشترطت أن تبقى حامية عسكرية في كل من عنابة وقسنطينة، ويظل ميناء عنابة في يدها. ولكن الحاج أحمد لم يقبل هذه الشروط وأحال الفرنسيين على السلطان العثماني. وصل كمال بك إلى قسنطينة واستقبله الحاج أحمد استقبالا حارا. وفي اجتماع عام لأعيان المدينة ورؤساء القبائل والمسئولين خطب كمال بك وقال بأن السلطان لم ينسهم وأن عليهم بالصبر والإيمان، وقال إن السلطان يعمل على إبقاء إقليم قسنطينة تحت طاعته، وأن عليهم أن لا يقبلوا أي شرط بدون موافقته. وقد وقف كمال بك على تعلق البلاد بالحاج أحمد وعرف أن الرسائل التي ترد إلى اسطانبول من باي تونس لا تستند على الواقع. عاد كمال إلى اسطانبول وكتب إلى الحاج أحمد يعلمه أنه اطلع السلطان على الوضع وأنه يعمل للوصول إلى حل لصالح الباي، ولكنه لم ينجح، وطلب منه أن يراسل السلطان عن طريق سي الطاهر باشا الذي أصبح - حاكما لطرابلس.

إنتصار قسنطينة

وليس هناك حاجة للإطالة في موضوع انتصار العرب على الفرنسيين في معركة قسنطينة سنة 1836، فقد علم الحاج أحمد عن طريق جواسيسه باستعداد الفرنسيين في عنابة للقيام بحملة ضد قسنطينة، فخرج لمقابلتهم مسافة نصف يوم وأقام معسكره عند مكان يدعى وادي الكلاب، وكانت قواته 1،500 من الرماة و500 فارس. وقد التقى الجمعان في مكان يسمى عقبة العشارى، وحين رأى قوة الجيش الفرنسي تراجع ولكنه استمر في حربهم، ودخل قسنطينة. نصب الفرسيون مدافعهم على جبل المنصورة وسيدى مبروك الذي يشرف على المدينة وبدأوا في قصفها. كان الجيش الفرنسي بقيادة كلوزيل. وكان الثلج والمطر ينزلان بغزارة وحاول الفرنسيون إرغام المدينة على الاستسلام ولكنهم فشلوا، لذلك تراجعوا عنها، بينما طاردهم جيش الحاج أحمد إلى قالمة. وفي طريق عودته إلى قسنطينة وجد عربات محملة بالمؤونة تركها الفرنسيون خلفهم. وقد كان لهذا الانتصار وقع كبير على الأهالي. كما أدى إلى عزل كلوزيل واستدعائه إلى فرنسا.

بعد انتصاره عاد الحاج أحمد إلى المدينة وبدأ في تحصينها لأنه كان يتوقع أن الفرنسيين سيعيدون الكرة. وقد عرف أن هناك أناسا كانوا يريدون التسليم للفرنسيين أثناء قصف المدينة فحكم على بعضهم بالإعدام. ومن جهة أخرى أرسل إلى السلطان يخبره بما جرى. وكان معه قواد مخلصون له أمثال ابن عيسى والبجاوي الذي أصبح خليفة له، وساعده على تصميم المقاومين أن الفرنسيين أرادوا تعيين يوسف المملوك بايا على قسنطينة بينما كان أهل قسنطينة يعلمون أن يوسف لم يكن مملوكا فقط ولكنه كان أيضا يهوديا مرتدا.

خيانة باي تونس

وفي نفس الوقت شع الأمل في وجه الحاج أحمد عندما علم أن المساعدات العثمانية قد وصلت إلى تونس في طريقها إليه. فقد جاءه مبعوث من اسطانبول يدعى صراف أفندي وأخبره أن السلطان قد علم بانتصاره عن طريق سي الطاهر باشا حاكم طرابلس. كان ذلك في ربيع سنة 1837 أي بعد عدة شهور من انتصاره على الفرنسيين. وصلت أربع سفن عثمانية إلى ميناء تونس محملة بالجنود الأتراك مع اثنى عشر مدفعا ومائة وخمسين مدفعيا. ولكن باي تونس الذي كان مهددا بالضرب من الأسطول الفرنسي إذا نزل الجنود العثمانيون على أرضه أرسل إلى القبطان العثماني يأذن له بانزال المدافع فقط أما الجنود فقد اعتذر له عن إنزالهم. ومن جهة أخرى أرسل (باي تونس) يعتذر إلى الحاج أحمد عن موقفه لأنه يريد إقامة علاقات ودية مع الفرنسيين، وهكذا عاد الجنود الأتراك بسفنهم من حيث أتوا، أما المدافع فقد استعملها باي تونس في شؤونه الخاصة، وبقي الحاج أحمد وحيدا حزينا.

وبينما كان الفرنسيون يستعدون لجولة أخرى ضد قسنطينة حاولوا فتح المفاوضات مع الحاج أحمد. اتصلوا أولا باليهودي ابن باجو الذي كان يعمل في دار الحاج أحمد والذي كان يتاجر في تونس. 


ويليه الجزء الثالث والأخير إن شاء الله

مقاومة أحمد باي - الجزء الأول

 
مقاومة أحمد باي - الجزء الأول


مقاومة الإحتلال الفرنسي في الجزائر وأنواعها :


يمكن تقسيم المقاومة التي واجهت الفرنسيين بعد احتلال الجزائر إلى ثلاثة أنوع :

  • مقاومة سياسية قامت بها طبقة التجار والعلماء وأعيان المدن، وكانت هذه غالبا تنبع من المدن وتولاها حمدان بن عثمان خوجة وزملاؤه.
  • مقاومة شعبية دينية قام بها مرابطون ورؤساء قبائل تحت راية الجهاد في سبيل الله والأرض والشرف والوطن، وتولاها مرابطون وزعماء أمثال بن زعمون والحاج سيدي السعدي والآغا محيي الدين ثم الأمير عبد القادر.
  • أما النوع الثالث من المقاومة فهو ما قام به ممثلو الإدارة العثمانية، بعد سقوط الحكومة المركزية، دفاعا عن المصالح الشخصية والألقاب العثمانية في سبيل الإسلام وذودا عن التقاليد والأراضي الإسلامية. وقد تولى هذا النوع من المقاومة باي التيطري مصطفى بومزراق وابنه سي أحمد، وإبراهيم باي قسنطينة السابق، والحاج أحمد الذي كان باي قسنطينة عند دخول الفرنسيين مدينة الجزائر.

 ويهمنا الآن الحديث عن الحاج أحمد الذي قاوم الفرنسيين خلال ثماني عشرة سنة وترك لنا سيرة مقاوم عنيد، وجندي كفء، وحاكم قدير.

مقاومة الحاج أحمد باي قسنطينة

من هو أحمد باي؟

ولاه حسين باشا بايا على قسنطينة حوالي سنة 1827. وكان الحاج أحمد مرتبطا بإقليم قسنطينة بالمصاهرة فقد ولد من أب تركي وأم جزائرية، وكان أخواله من عائلة ابن قانة التي كانت لها مكانة وسلطة على عرب الصحراء في نواحي بسكرة والزاب. كان جده هو أحمد القلي الذي كان بايا على قسنطينة أيضا. أما والده فقد كان خليفة لحسين باشا. وقد تصاهر الحاج أحمد مع عدد من الأسر والقبائل العربية في المنطقة هادفا إلى نيل تأييدهم. فتصاهر مع ابن قانة، والمقراني، وقسم من قبيلتي فرجيوة زواوة. ولكن أعداءه كانوا هم أولاد فرحات الذين يتنازعون منصب (شيخ العرب) مع أولاد ابن قانة. وقد واجه الحاج أحمد عدوا لدودا في شخص فرحات ابن سعيد عندما عزله الحاج أحمد من منصب شيخ العرب وأعطاه إلى خاله بو عزيز بن قانة. كما واجه الحاج أحمد خصوما في بقية فرجيوة وزواره وفي الحزب الذي ظهر ضده في عاصمة إقليمه.

عندما تأكدت الحملة الفرنسية على الجزائر بعث إليه حسين باشا يأمره بالقدوم إلى العاصمة عام 1830 في رحلة (الدنوش). وقد أمره الباشا أيضا بتحصين ميناء عنابة وأخطره بالمشروع الفرنسي. وما دام الباشا لم يطلب منه الإتيان بالجيش معه فإنه لم يصطحب معه سوى حوالي 400 فارس وبعض أعيان قسنطينة وقوادها. وبعد وصوله إلى العاصمة عرفه حسين بتفاصيل الحملة الفرنسية وطلب منه أن يستعد لملاقاة الفرنسيين في سيدى فرج.  وقد أخطره الباشا بأن له جواسيس في مالطا وجبل طارق وفرنسا يتتبعون أخبار الفرنسيين ويبعثون إليه الرسائل عن كل التفاصيل.

حضر الحاج أحمد مجلسا عسكريا قرب اسطاوالي وحضره أيضا الآغا إبراهيم - قائد الجيش وصهر الباشا، وباي التيطري مصطفى بومزراق، وخليفة باي وهران، وخوجة الخيل وناقشوا وسائل الدفاع. وقد شارك الحاج أحمد في المناقشة الطويلة التي جرت والتي تعارض فيها رأيه مع رأي الآغا. وقد حضر المناقشة أيضا حمدان بن عثمان خوجا الذي ترك لنا وصفا حيا، لذلك. وبعد معركة اسطاوالي التي حضرها الحاج أحمد وفقد فيها من رجاله حوالي 200. وبعد استيلاء الفرنسيين على قلعة مولاي حسن انسحب الحاج أحمد إلى وادي القلعة ثم إلى عين الرباط (مصطفى باشا الآن) شرقي العاصمة. ثم تابع طريقه شرقا في اتجاه قسنطينة، بينما انضم إليه أكثر من 10600 شخص من الأهالي الفارين من الجيش الفرنسي رجالا ونساء. وفي أولاد زيتون إستلم رسالة من بورمون قائد الجيش الفرنسي يخطره فيها بتوقيع معاهدة الاستسلام ويعرض عليه اعتراف فرنسا به كما هو إذا قبل دفع (اللازمة) (الجزية) التي تعود دفعها إلى الباشا. فكان رده هو أن ذلك متوقف على رضى أهل الإقليم الذي يحكمه، ثم واصل سيره نحو قسنطينة التي وصل ضاحيتها (الحامة) بعد اثنين وعشرين يوما.

المسلك نحو المقاومة

توقف الحاج أحمد في ضاحية المدينة لأنه عرف أن خصومه الأتراك قد قاموا بانقلاب ضده وعينوا بايا جديدا مكانه يدعى حمود بن شاكر. ولكن أنصاره تحركوا عندما علموا بعودته يقودهم خليفته ابن عيسى وبعض العلماء، وعندما تأكد خصومه من عدم تأييد أهل البلاد لهم قتلوا زعيمهم وأعلنوا توبتهم وولاءهم. وقد عفا عنهم الحاج أحمد في الظاهر ولكنه تخلص منهم واحدا واحدا فيما بعد وحمل منذئذ كرها شديدا ضد الأتراك وأصبح لا يثق فيهم واعتمد على تأييد الجيش العربي الذي أخذ في تكوينه.

كان على الحاج أحمد أن يواجه عدة ضغوط دبلوماسية وأن يسيطر على الإقليم. فبعد استقراره في عاصمة إقليمه تلقى رسالة من قائد الجيش الفرنسي الجديد، الجنرال كلوزيل، يطلب فيها منه تعيينه بايا على قسنطينة باسم ملك الفرنسيين شريطة أن يدفع (اللازمة) لفرنسا. ولكن الحاج أحمد الذي كان يعتقد أن سلطاته مستمدة من الشعب ومن السلطان العثماني جمع ديوانه واستشاره. فكان رد الديوان الرفض القاطع. وبينما كان ينتظر رد السلطان محمود الثاني علم أن كلوزيل قد عزله من منصبه وأنه قد وقع مع تونس معاهدة يصبح بمقتضاها سي مصطفى، أخو باي تونس عندئذ، بايا على قسنطينة خلفا للحاج أحمد. ولكن الحكومة الفرنسية لم توافق على المعاهدة المذكورة، وكان على كلوزيل وخلفائه أن يواجهوا مقاومة شديدة من الحاج أحمد. ويذكر هذا في مذكراته أن خبر توقيع المعاهدة بين كلوزيل وباي تونس لم ينتشر بين سكان الإقليم ولم يعرفه إلا بعض الناس.

ولكن فرنسا، ولو لم توافق حكومتها على المعاهدة، نجحت في خلق توتر بين قسنطينة وتونس. فبعد توقيع المعاهدة انتشرت الرسائل في إقليم قسنطينة من باي تونس تدعو الناس إلى الثورة ضد الحاج أحمد، وتصف الحاج أحمد بالاستبداد والطغيان والخروج عن طاعة السلطان.  والغريب أن الرسائل كانت لا تذكر شيئا عن الاتفاق مع الفرنسيين وهكذا كان على الحاج أحمد أن يواجه عدة جبهات: جبهة ضد فرنسا، وأخرى ضد تونس، وثالثة ضد إبراهيم الذي أعلن نفسه بايا على عنابة ويطالب بعودته إلى قسنطينة. ورابعة ضد باي التيطري الذي أعلن نفسه (باشا الجزائر)، خلفا لحسين باشا وطالب الحاج أحمد الاعتراف به.  وخامسة ضد فرحات بن سعيد شيخ العرب الذي عزله الحاج أحمد وعين بدلا منه خاله بوعزيز بن قانة. بالإضافة إلى المؤامرات التي ولدت ضده داخل عاصمته.

جمع الحاج أحمد ديوانه وعرض عليهم دعوى باي تونس فقرر الديوان إرسال رسالة إلى باي تونس محتواها أنه ليس من حقه المطالبة بقسنطينة. وأن السلطان هو المرجع، فكما أن باي تونس يستمد سلطاته منه فكذلك باي قسنطينة، وأن أهل قسنطينة راضون بحكم الحاج أحمد. وتحت صغط الرأي العام، وانتزاعا للمبادرة عن باي التيطري، وقطعا لدعاوى باي تونس، تقلد الحاج أحمد لقب (الباشا) وأمر بضرب السكة باسمه وباسم السلطان. وعين مساعده بن عيسى خزناجيا، وأعلن هذه الإجراءات الإدارية التي تخوله ممارسة السيادة إلى الرأي العام.

ولكن المعركة بينه وبين باي تونس انتقلت إلى بلاط السلطان. فقد علم الحاج أحمد أن باي تونس قد بعث برسائل إلى السلطان يصف فيها باي قسنطينة بظلم الرعية والخروج عن الطاعة. فلجأ الحاج أحمد إلى إرسال وفد برئاسة سي علي بن عجوز أحد أعيان قسنطينة ومعه أحد ثقاته وهو الحاج مصطفى إلى اسطانبول. وقد حمل الوفد إلى السلطان موقف الإرادة العامة التي احتوت توقيعات رؤساء القبائل بعد السيطرة على الموقف في قسنطينة التفت الحاج أحمد إلى خصومه الذين تخلص من بعضهم بمساعدة الظروف، ولكن بعضهم ظل كالشوكة في حلقه. فقد خرج لمحاربة إبراهمم وفرحات بن سعيد. فر الأول إلى عنابة عن طريق تونس والثاني إلى أولاد جلال في أعماق الصحراء حيث ظل يحارب بدون هوادة وكان إبراهيم في عنابة قد تواطأ مع الفرنسيين أولا ثم أعلن الحرب عليهم وأخرجهم من المدينة ولكن ابن عيسى مساعد الحاج أحمد حاربه واضطره للهروب. ثم تحولت المعركة على عنابة بين ابن عيسى والفرنسيين. وعندما أيقن ابن عيسى من تغلب الفرنسيين عليه خرج منها هو وسكانها ودخلها الفرنسيون من جديد واستقروا بها بعد سنتين من احتلال   الجزائر وقد كان احتلالهم لعنابة، أهم مواني إقليم قسنطينة، سببا في توتر مستمر بين فرنسا والحاج أحمد. وقد عين الفرنسيون على عنابة يوسف المملوك. أما إبراهيم فقد احتمى بالجبال وواصل مقاومته للحاج أحمد إلى سنة 1834، وكان في نفس الوقت يحارب الفرنسيين. ثم التجأ إلى مدينة المدية حيث مات، ويقال إنه اغتيل من عملاء الحاج أحمد. وإذا كان الفرنسيون قد خلصوا الحاج أحمد من خصمه بومرزاق حين أسروه ونفوه إلى الاسكندرية (خريف 1830). فان ابنه سي أحمد قد انضم إليه (إلى الحاج أحمد) وأصبح خليفة له ورشحه أن يكون صهرا له. وكان أعيان البلاد يؤيدون حكمه وينفون عنه الاستبداد والظلم.


ويليه الجزء الثاني إن شاء الله