قراءة أخرى في معركة نافارين 1827م

 
 
 
 
بوابة الجزائر

 

تأملات في تاريخنا وإسقاطات على واقعنا


قراءة أخرى في معركة نافارين 1827م


أهمية الموضوع

 
بمناسبة الذكرى المزدوجة : بداية احتلال الجزائر ونهايته، ارتأينا أن نقف عند واحدة من أهم الأحداث التاريخية التي أدت إلى احتلال الجزائر من قبل فرنسا عام 1830م، إذ تُعتبر معركة نافارين (1827م)، كما نقرأ في كتبنا، أحد أهم الأسباب التي أدت إلى احتلال الجزائر نظرا لتحطيم أسطولها البحري في تلك المعركة مما قلب ميزان القوة العسكري لصالح فرنسا فاحتلت الجزائر.
 
لكننا في هذا المقال، نرجع بشيء من التحليل إلى السياق التاريخي والسياسي الذي سبق ثم أعقب تلك المعركة، لنبين أن الكارثة لم تكن في الهزيمة العسكرية، بل في عدم اتقان اللعبة الجيوستراتيجية التي نبغت فيها آنذاك القوى الإستعمارية الصاعدة وتعاملت معها الدول الإسلامية بسذاجة ملفتة للأنظار.
 
 أوردنا هذا الموضوع كذلك لنترك للقارئ فرصة التمعن في تلك الأحداث والإدراك أن عالمنا اليوم لم يتغير، إذ ما تزال القوى المسيطرة هي نفسها وتلعب نفس اللعبة على رقعة الشطرنج العالمي التي ما زالت دولنا بيادق فيها تُسَيَّرُ حسب الأهواء، وما يجري حاضرا في الشرق الأوسط والخليج إلا شاهد على ذلك.
 

الأحداث التي أوصلت إلي معركة نافارين

 
أملا في إخماد ثورة اليونان، وعد السلطان العثماني حاكمَه على مصر آنذاك، محمد علي باشا(*)، الولاية على اليونان وأهداه جزيرة كريت الثائرة في وجه الوجود العثماني بعد أن عجزت جيوشه عن إخماد ثورتها.  فدخلها أسطول محمد علي سنة 1827م وسيطر عليها.
 
إرتأى إبنه إبراهيم باشا أن يُبحر بعد ذلك إلى شبه جزيرة المورة ويخضع ثورتها هي أيضا، فتم له ذلك لكن بعد أن خسر ربع قواته وبعد أن أباد ثلاثة أرباع سكانها.
 
تذرعت القوى الأوروبية بتلك الحادثة فبدأت بحشد قواتها لمعاقبة العثمانيين، لكنها أظهرت أولا تفضيل التحكيم والحوار ربحا للوقت،  فعقدت هدنة بين المتحاربين تمهيدا لتسوية المشكلة اليونانة مع السلطان العثماني. 
 
لكن ...
 
في نفس الوقت، قررت الدول الأوروبية المتحالفة ضد العثمانيين (إنكلترا وفرنسا وروسيا) إرسال أساطيلها سرا إلى اليونان فألقت مراسيها في ميناء نافارين، وفي العشرين من شهر أكتوبر سنة 1827م، باغتت الدول المتحالفة أسطول العثمانيين وإيالاتهم،مصر والجزائر وتونس، وفتحت نيران مدفعيتها عليهم فألحقت بهم دمارا كبيرا وهزيمة ما زال العالم الإسلامي يعاني من تبعاتها إلى يومنا هذا.
 

لعبة التحييد، العزل ثم التفكيك ...

 لم تكن القوى الأوروبية لتضيع فرصة تاريخية كهته، وانتقلت في استراتجيتها إلى المرحلة الموالية:  مرحلة التحييد، العزل ثم التفكيك.
 

تحييد مصر 

 
كان للهزيمة آثارها العميقة في نفس محمد علي باشا، إذ لم يستسغ سماح العثمانيين للأسطول الروسي بالعبور خلال البسفور والمشاركة في التحالف ضده، فبدأ يجاهر بعدائه للسلطان العثماني ورفض أن يتحالف معه مستقبلا.
 

عزل الدولة العثمانية

 
فبعد تحييد مصر، إنقضت روسيا على العثمانيين سنة 1828م واحتلت أدرنة، وانتهت الحرب في السنة الموالية بمعاهدة أدريانوبل التي فرض الروس بموجبها شروطا مخزية على العثمانيين.
 

بداية التفكيك

 
سارعت بريطانيا بعد معركة نافارين، عبر سفيرها في مصر، إلى تقديم الإعتذار إلى محمد علي والتأسف على ما حدث، مرجعة حادثة إطلاق النار إلى خطأ إرتكبه قائد أسطولها "كدرينغتون"، لكنها همست في أذن الباشا همسا خبيثا: "إن بريطانيا سوف تقف موقفا محايدا إذا أعلن محمد علي الحرب على الدولة العثمانية يكون مسرحها الشام".
 
كانت الخطوة البريطانية تلك غاية في المكر إذ كانت أول اتصال مباشر بمحمد علي، والي العثمانيين على مصر، دون إذن من السلطان مما زاد من نشوته ورغبته في الإنفصال عن الدولة العثمانية والإستقلال عنها. 
 
وفعلا فقد جهز محمد علي جيشا بقيادة ابنه إبراهيم باشا سنة 1831م وألحق بالعثمانيين هزائم متتالية مكنته من إخضاع مجمل الشام بل اجتاح الأناضول كذلك وكاد يقتحم الأستانة نفسها.  وضعت هته الحرب أوزارها في أبريل من سنة 1833م بموجب اتفاقية كوتاهية.
 

لكن وقبل ذلك ... إحتلال الجزائر

 
بعد عزل العثمانيين وتحييد مصر، باتت مهمة احتلال الجزائر أمرا أكثر يسرا وسهولة بالنسبة لفرنسا إذ أصبح الإنفراد بهذه الإيالة وفكها عن الدولة العثمانية أمرا متاحا دون الإكتراث بردود أفعال العثمانيين، فكيف للغارق أن يستنجد بالغريق؟
 
فالطامة في موقعة نافارين ليست في الهزيمة العسكرية كما نطالع في كتبنا، إذ أنها كانت معركة ولم تكن حربا، بل الطامة كانت في الهزيمة الإستراتيجية بعد أن وقعت الجيوش الإسلامية في فخ لعبة التحييد والعزل ثم التفكيك.  فالجزائر فُصلت عن عمقها الإستراتيجي أولا قبل أن تُحتل، وكذلك فُعل بمصر.  فبعد أن ظن محمد علي أنه حليف للإنجليز ضد العثمانيين، هاهي مصر بدورها تقع تحت الإحتلال البريطاني عام 1882م، أما الدولة العثمانية فقد بلغ بها الجزع مبلغا بعد نافارين ودخلت في متاهات وتناقضات، فبعد أن أغلقت الدردنيل في وجه الملاحة الروسية لتدخل في حرب معها دامت قرابة السنة والنصف (1829-1828م)، هاهي بعد ذلك بأشهر تستنجد  بروسيا نفسها ضد حليفها السابق وواليها على مصر، محمد علي باشا بعد أن غزت جيوشه الأناضول!

ولا تزال مثل هذه اللعبة مستمرة في عالمنا وضد دولنا اليوم، فماذا حدث للعراق الذي ظن يوما أنه حليف لأمريكا؟  وماذا حدث لتركيا التي أسقطت طائرة الروس لتحتمي بها بعد ذلك من ألاعيب الغرب؟ وكيف نفسر أحداث الخليج الآن؟
 
 
---------------------
(*) للإختصار واستخلاص العبرة من الحدث، لم نشأ أن نتطرق إلى شخصية محمد علي باشا وكيف وصل إلى الحكم، إذ قيل فيه ما قيل.  فمنهم من يرى أنه باني مصر الحديثة ومنهم من يقول أنه رجل زرعته فرنسا في مصر ومنهم من يذهب إلى أنه ماسوني أو حتى نصيري ... وهذا خارج عن مقاصد موضوعنا اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق