أوضاع الجزائر الثقافية والتعليمية قُبَيل الثورة التحريرية

مدرسة كولونيالية للذكور بالجزائر




في المجال الثقافي، فإن الثورة قد اندلعت عندما كان الاستعمار قد انتهى تقريباً من مهمته الأساسية، الخاصة بالمسخ والتشويه والتجهيل


ففي السنوات الأولى من الاحتلال وبالتوازي مع ما كان به من نهب للثروات الوطنية واستيلاء على الأراضي الخصبة الشاسعة، يوزعها على الكولون الجدد وعلى المؤسسات الاستعمارية المختلفة، راح يوظف كل ما لديه من قوة، ظاهرة أو باطنة، للقضاء على مصادر الثقافة الوطنية. فهدم كثيراً من المساجد، وحول أعداداً كثيرة منها إلى كنائس أو ثكنات أومستوصفات وحتى إلى ملاهي لأجناده وماخورات عمومية. وفي نفس السياق وجه ضربات قاسية للمثقفين الجزائريين فقتل من قتل ونفى من نفى وزج في السجون بمن شاء وظل يطارد ويضطهد كل من بقي طليقاً قصد منعه من القيام بواجبه نحو المجتمع وبذلك صارت الإحصائيات تشير قبل اندلاع ثورة نوفمبر إلى أن حوالي 19% فقط، من الجزائريين متعلمون، يدخل في هذه النسبة المئوية من يحسن القراءة والكتابة سواء بالعربية أو بالفرنسية، وكانت جامعة الجزائر التي تعد، نظرياً، من أكبر جامعات فرنسا تجمع في مدرجاتها حوالي ستة آلاف طالب، لا يزيد عدد الجزائريين منهم عن خمسمائة طالب، معظمهم من أبناء الطبقات التي صنعها الاستعمار لخدمة مصالحه. 

ولكن ماذكرنا، أعلاه ليس هو وجهة نظر المؤرخين الغربيين الذين على غرار السيد هورن يشيدون بما حققته فرنسا، في الجزائر، من منجزات تتمثل في: "شبكة الطرقات والسكك الحديدية والمطارات والمدن الكبرى والمواني، إلى جانب الغاز والكهرباء والمواصلات السلكية واللاسلكية والمنشآت الصحية والخدمات الطبية المتعددة" والحقيقة، أن ذلك ليس مجرد ادعاء، لقد أنجزت فرنسا، ولا يمكن للمؤرخ النزيه أن ينكر ذلك، لكن كل الإنجازات كانت موجهة لخدمة مصالح الأوربيين. وحيث لا وجود للمستعمر، فإن تلك الإنجازات لم تصل ولم تتحقق. 

ففي مجال التعليم الابتدائي، مثلاً، نجد أن الأطفال الفرنسيين الذين هم في سن الدراسة كلهم يقبلون في المدارس التي تطبق البرامج السارية المفعول في "الوطن الأم"، وبواسطة معلمين أكفاء تعطى لهم كافة الوسائل الضرورية لأداء رسالتهم على أحسن وجه. أما الأطفال الجزائريون، فإن المصادر المتزمتة نفسها تذكر بأنهم عندما يبلغون سن الدراسة، لا يجدون سوى مقعد واحد لكل خمسة ذكور، ومقعد آخر لعدد يتراوح ما بين ست عشرة وست وسبعين فتاة، معنى ذلك أن طفلين جزائريين فقط من جملة حوالي ثلاثين كان يمكن لهما أن يدخلا المدرسة في سنة 1954، الأمر الذي يسمح لنا أن نؤكد بأن حوالي 7% فقط من أبناء الجزائر كانت لهم فرصة التعليم، أضف إلى ذلك نسب الفشل والعجز عن مواصلة الدراسة نتيجة الفقر والاحتجاج خاصة. 

و لم تكتف السلطات الاستعمارية بسد أبواب التعليم الفرنسي في وجه الجزائريين، بل إنها بذلت كل ما في وسعها لمحاربة اللغة العربية سواء في المدارس أو في الكتاتيب. 

ولقد نجحت في ذلك إلى أقصى الحدود حتى إن الجزائر التي كانت قبل الاحتلال، توفر لكافة أبنائها جميع الشروط اللازمة للحصول على نصيبهم في العلم والمعرفة، قد أصبح شعبها أمياً بنسبة حوالي ثمانين بالمائة سنة اندلاع الثورة. 

وهكذا، فبقدر ما كانت الجالية الأوربية تستفيد من بناء المدارس ونشر المعرفة، كان الجزائريون يعانون من سياسة التجهيل التي نجح الاستعمار نجاحاً باهراً في تطبيقها على سائر الفئات الاجتماعية. 

إن الإحصائيات الرسمية تنص بكل بساطة على أن الجزائر كانت سنة 1944 تشتمل على 6.500 قسم مدرسي في الابتدائي نصيب المسلمين منها حوالي 1000 لاستقبال 108.000 تلميذ أي بمعدل 108مدرس للقسم الواحد. 

و في المقابل فإن عدد التلاميذ الأوربيين قد بلغ بالنسبة لنفس السنة 118000 موزعة على 5.500 قسم أي بمعدل 22 مدرساً للقسم الواحد. 

أما في التعليم الثانوي، فإن عدد التلاميذ الجزائريين سنة 1951 لم يكن يمثل سوى 6و11% من مجموع المسجلين في الثانويات. وفي سنة 1954 بلغ عدد الثانويين الجزائريين 6.260 من جملة 35.000 تلميذ، علماً بأن عدد السكان الأوربيين كان في ذلك الوقت أقل من عشر العدد الإجمالي للسكان. 

وفي التعليم العالي، كان عدد الطلبة الجزائريين سنة 1948 لا يزيد عن 6 من بين حوالي600 أوربي. ومع اندلاع الثورة ارتفع ذلك العدد ليصل إلى 589 طالباً من بينهم 51 طالبة. أما الطلبة الأوربيون فقد كان عددهم 7800. 

إن هذه الاحصائيات لا تكون كاملة إلا إذا أضفنا لها عدد الأطفال الجزائريين الذين كانوا يتعلمون بالمدارس الحرة والكتاتيب والتي كانت تستقبل منهم سنة 1954 حوالي 200.000 تلميذ. أما جامعات الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب الأقصى والأزهر في مصر فإن عدد الطلبة الجزائريين بها في تلك السنة قد يكون وصل إلى 1270 رحلوا إليها من مختلف جهات الوطن.


أوضاع الجزائر الصناعية قُبَيل الثورة التحريرية

مصنع للفلين بالجزائر إبان الإحتلال





لئن كان ممكناً الحديث بإسهاب عن الفلاحة الجزائرية قبل اندلاع الثورة، والإيفاء بذلك الحديث يتطلب عشرات المجلدات، خاصة إذا أردنا التعرض للتفاصيل، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للتجارة الخارجية والصناعة لأنهما تكادان تكونان وقفاً على المعمرين الذين يحتكرون كما ذكرنا، عمليات التصدير والتوريد، واستغلال المناجم على اختلاف أنواعها.

فالصناعة، قبل الاحتلال، كانت أكثر تقدماً وأحسن تنظيماً، تشهد بذلك مختلف المصادر التي تجمع أن الحرفيين، في الجزائر، كانوا يجمعون في نقابات حسب التخصص بحيث تجد النجارين في شارع، والحدادين في آخر، والشواشين في ثالث، والصباغين في رابع، والدباغين في خامس، إلخ... وكانت كل نقابة تسير من قبل أمين ينتخب بديمقراطية ويختار لما له من خبرة وحكمة وحسن سلوك، وللأمناء مجتمعين مكانة مرموقة لدى الحكومة المركزية، أما أمين الأمناء، فإنه يحضر الاجتماعات مع السلطات العليا، ويشارك، فعلياً، في اتخاذ القرارات، سواء منها الاقتصادية أو السياسية.

وإلى جانب هذه الصناعة التقليدية، كانت الدولة الجزائرية تهتم كثيراً بمناجم المعادن المختلفة ، وتولي رعاية خاصة لصناعتين كانتا أساسيتين في ذلك الحين، وهما صناعة الأسلحة والذخيرة الحربية، وصناعة السفن.

وبعد الغزو، وبالتدريج، أهملت الصناعة في الجزائر، لتتخصص البلاد شأن جميع بلدان العالم الثالث، في تصدير المواد الأولية وقد نجحت السطات الاستعمارية في مهمتها، إذ ما كادت الثورة تندلع حتى اختفت صناعتنا التقليدية، وصارت الجزائر تستورد كل شيء تقريباً، واختفت مصانع الأسلحة والبارود، وورشات البحرية الخاصة بصناعة السفن. وبالمقابل تضاعفت كميات المعادن المنجمية المستخرجة، والتي أصبحت سنة 1954، حوالي ستمائة ألف طن من الفوسفات، وثلاثة ملايين ونصف مليون طن من الحديد، وأربعمائة ألف طن من الفحم، إلخ....

وبقدر ما أنهك الاستعمار صناعتنا، قبل أن يقضي عليها، فإنه خنق التجارة الخارجية التي كانت، هي الأخرى، مزدهرة قبل الغزو الفرنسي. قد يبدو أن قولنا هذا مجرد إدعاء، ولكن المصادر، على اختلاف لغاتها، تثبت بأن الجزائر، قبل الاحتلال كانت تقيم علاقات تجارية مكثفة مع افريقيا جنوب الصحراء، ومع البلاد العربية وأوربا الغربية خاصة، وبأن تجارتها تلك كانت مخططة وتدر على البلاد أرباحاً كثيرة، تستثمر في سائر الميادين. ثم جاءت آفة الاستعمار، وما كادت تمر السنوات الأولى من الغزو حتى أصبح ميزان التجارة الخارجية الجزائرية خاسراً لأن كل عمليات التصدير والتوريد صارت مقصورة على فرنسا.

وفي العشرية التي سبقت ثورة نوفمبر سنة 1954، لم يعد في استطاعة أي عاقل الحديث عن تجارة الجزائر الخارجية، بل كل ما هناك عمليات احتكارية تقوم بها كمشة من المستعمرين، يجمعون الأرباح لأنفسهم على حساب فرنسا والجزائر في آن واحد.

أوضاع الجزائر الزراعية قُبَيل الثورة التحريرية

فلاحان جزائريان إبان الإحتلال



الجزائر بلد زراعي، هذه حقيقة قديمة، لا تحتاج إلى تدعيم، ولكن الجديد في الأمر هو أن مؤرخي الاستعمار يدعون بأن المعمرين الفرنسيين هم الذين استصلحوا الأراضي، وصيروا ترتبها طيبة. إن هؤلاء المؤرخين يتناسون أو يتجاهلون ما ورد في تقرير السيد "تادنة" الذي قدمه لسلطات الإمبراطورية الفرنسية في أيام عزها، والذي جاء فيه: "إن مناخ الجزائر جميل وأرضها طيبة، توجد بها مراع شاسعة، وسهول فسيحة: تكثر فيها منتوجات أمريكا والهند، بالإضافة إلى ما ينبت في أراضي أوربا، كما أنها تنتج كميات هائلة من القمح والشعير والصوف والجلود والشموع. أما مراعيها فتزخر بأنواع الحيوانات المختلفة مثل الأبقار والأغنام والماعز والبغال والحمير الممتازة".

ويبدو كذلك أن هؤلاء المؤرخين لم يطلعوا على ما أورده السيد (شايلر) في كتابه "لمحة تاريخية عن الدولة الجزائرية" إذ يؤكد بأن سهول متيجة تعتبر من أحسن الأراضي وأوسعها في العالم، وذلك نظراً لمناخها وخصوبتها وموقعها، وهي تمتد على مساحة قدرها بالتقريب 330 ميلاً مربعاً. 

صحيح أن سلطات الاحتلال قد استصلحت بعض المستنقعات القريبة من العاصمة لكنها لاتمثل شيئاً بالمقارنة مع ملايين الهكتارات من الأراضي الخصبة التي اغتصبتها سواء من أملاك الدولة الجزائرية أو من أملاك الأعراش والخواص ثم وزعتها على الكولون المرحين من الجيش أو المرافقين له وعلى عدد من الشركات الفلاحية التابعة لمختلف المؤسسات الفرنسية في "المتروبول". 

وكانت معظم الأراضي في الجزائر، قبل الاحتلال الفرنسي، ملكاً مشاعاً للأعراش التي كانت تستثمرها جماعياً لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي وتصدير الفائض من الإنتاج إلى المشرق وإفريقيا السمراء وإلى بلاد جنوب أوربا على وجه الخصوص ثم جاءت قرارات القادة العسكريين االفرنسيين ومراسيم السلطات الاستعمارية فأباحت اغتصاب تلك الأراضي بسبب مشاركة أصحابها في الانتفاضات الشعبية المختلفة وتسليمها بالمجان إلى المعمرين الأوربيين. 

وبفعل عمليات الاغتصاب تلك تحول الفلاحون الجزائريون الذين كانوا، قبل الاحتلال، يمثلون الأغلبية الساحقة من السكان، إلى مجرد خماسين أو أوأجراء موسميين أو إلى أناس عاطلين تماماً عن العمل يعيشون من التسول أو من الأعشاب والنباتات التي تجود بها الطبيعة. 

وما كاد يحل الاحتفال بمرور قرن على الاحتلال حتى فقدت الجزائر قدرتها على تحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي وتحولت من منتج للحبوب ومصدر لها إلى بلد مضطر لاستيراد المواد الغذائية الضرورية لحاجات سكانه. 

مثل هذه الحقائق تفرض علينا طرح أسئلة كثيرة، وفي مقدمتها: كيف انقلبت الأوضاع بهذه الصورة وبتلك السرعة؟ والجواب يكون سهلاً ومعقولاً، إلا على الفرنسيين، ويكمن في التالي: إن المهاجرين الأوربيين كانوا يجهلون طريقة الاعتناء بالفلاحة، ولم يكونوا يهدفون لغير الإثراء بأية طريقة كانت، لأجل ذلك، ركزوا مجهوداتهم على استنزاف الثروات، وتسخير الأرض بدون حساب، كما أنهم لم يهتموا باستصلاح الأراضي البور، أو الأراضي الموات الممتدة على ملايين الهكتارات جنوب التل شرقاً وغرباً. 

وبالإضافة إلى إهمال العمليات الاستصلاحية التي كان من الممكن أن تقلب الجنوب الجزائري جنة خضراء، قادرة على تغذية عشرات الملايين من البشر، فإن المستعمرين قد وجهوا ضربة قاسية ما زالت بصماتها واضحة المعالم على فلاحتنا، وتتمثل في تخصيص حوالي نصف مليون هكتار من أحسن الأراضي لغراسة الكروم المنتجة لعنب الخمور، مع العلم أن الجزائريين مسلمون ولا يستهلكون المشروبات الكحولية. 

وعلى حساب الحبوب أيضاً اهتم الكولون بالحوامض التي كانت تدر عليهم أضعاف أضعاف ما كانوا يجنونه من القمح والشعير. ولقد تطور منتوجها من سبعمائة ألف قنطار سنة 1931م إلى مليونين وسبعمائة وستة عشر ألف قنطار سنة 1950م وأصبح بذلك يحتل المرتبة الثانية في قائمة الصادرات بعد الخمور التي كانت تنتج بمعدل 16 مليون هكتار سنوياً عندما اندلعت الثورة الجزائرية. 

ولصالح الكروم والحوامض قضي، في ضواحي معسكر، على زراعة الأرز  وكذلك الأمر في شمال شرقي الجزائر، حيث أهملت زراعة القمح وسائر أنواع الحبوب الغذائية والفول والعدس وغيرها. 

وإذا كانت مغارس الكروم والحوامض قد أنشئت على حساب زراعة القمح والشعير، فإن اقتصار المعمرين على استغلال المساحات التي وجدها عند الغزو، وعدم التفاتهم إلى الجنوب حيث تتكاثر المياه الجوفية، قد أديا، بسبب ارتفاع عدد السكان وبالتالي تزايد الحاجيات، إلى تحويل الجزائر من بلد مزدهر إلى مستعمرة لا يستفيد منها سوى الكولون الذين اجتمعت بين أيديهم حوالي ثلاثة ملايين هكتار من أخصب الأراضي. 

وعلى هذا الأساس فإن سنة 1954، قد وجدت الفلاحة الجزائرية متقهقرة بالنسبة لما كانت عليه قبل الغزو: وإن تعسفات الاستعمار، وعمليات الاغتصاب التي قام بها، والتي تعرضت لها كافة أنحاء الوطن، وكذلك روح المستعمرين الانتهازية الاستغلالية، كل ذلك ترتب عنه إبعاد الفلاحين الجزائريين عن التسيير في مجال الزراعة، لتحويل معظمهم إلى آلات تسخر لخدمة المستغليين الأوربيين من جهة، ولتزويد الفلاحين الفرنسيين بما يحتاجون إليه لتحسين منتوجاتهم، ولتنمية طاقاتهم الإنتاجية من جهة ثانية. 

وتجمع الإحصائيات بالنسبة للعشرية التي سبقت الثورة، أن الأراضي الصالحة للفلاحة، تبلغ مساحتها أحد عشر مليون هكتار: منها ثمانية بيد الجزائريين الذين يمثلون تسعة أعشار السكان، وثلاثة ملايين هكتار بيد حوالي خمسة وعشرين ألف مستعمر، لأن الباقي يحتكرون التجارة الخارجية والصناعة الهامة ويشغلون مناصب القيادة على اختلاف أنواعها في جميع الميادين. 

ولئن كان ممكناً الحديث بإسهاب عن الفلاحة الجزائرية قبل اندلاع الثورة، والإيفاء بذلك الحديث يتطلب عشرات المجلدات، خاصة إذا أردنا التعرض للتفاصيل، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للتجارة الخارجية والصناعة لأنهما تكادان تكونان وقفاً على المعمرين الذين يحتكرون كما ذكرنا، عمليات التصدير والتوريد، واستغلال المناجم على اختلاف أنواعها.