لمحة عن سيرة المجاهدة الفدائية جميلة بوعزة


لمحة عن سيرة المجاهدة الفدائية جميلة بوعزة
الفدائية جميلة بوعزة


لم يكن يتجاوز عمر الفتاة جميلة سبع عشرة سنة حينما انضمت إلى العمل الفدائي في صفوف جبهة التحرير الوطني، وكانت حينها تلميذة تحضر لشهادة التعليم المتوسط.  وأول من ضم جميلة بوعزة إلى الثورة والعمل الفدائي صديقتها جميلة بوحيرد، في صيف 1956 حيث كانت سبقتها إلى ذلك، ولم تكن تعرف أحدا غير تلك الصديقة، وحتى ياسف سعدي قائد معركة الجزائر لم تتعرف عليه إلا بعد الإستقلال.  ثم انضمت إليها زهرة ظريف التي قدمت نفسها على أنها ستعمل في سبيل الوطن وتضحي من أجله، وثلاثتهن كن يعملن تحت القيادة المباشرة لياسف سعدي.

لقد ربيت الفتاة جميلة على حب الوطن وكره المستعمر وأعوانه، وكانت دائمة الذكر لمناضلات بارزات في الحركة الوطنية؛ سبقنها وسبقن جميلات جيلها إلى العمل السياسي والفدائي، وهن القدوة الحسنة لكل بنات وحرائر الجزائر، مثل : الجوهر أكرور ونفيسة حمود، ومريم بلميهوب ... 

وأول عملية كلفت بتنفيذها جميلة بوعزة ونفذتها، كانت في البناية رقم 11 مكرر من شارع ميشلي - ديدوش مراد حاليا - بالجزائر العاصمة، وذلك في شهر نوفمبر من عام 1956، حيث تلقت قنبلة كبيرة من زميلتها جميلة بوحيرد في شارع لالير، وقطعت بها العديد من الحواجز، لتضعها كما كان مخططا له في ذلك المبنى بجانب المصعد. تسبب الإنفجار في أضرار مادية كبيرة جدا بالإضافة إلى الهلع الذي دام أثره أسابيع في أوساط المحتلين الأوروبيين. 

بدأت الفدائية امتحانها بهذه العملية، ومن يومها تأكد ضمها إلى فرق العمل الفدائي في مدينة الجزائر العاصمة ومحيطها. وكان الإعتماد عليها كبيرا، ومن يومها كذلك بدأ إعدادها لعمليات أخطر.  ففي 27 من شهر جانفي 1957 قامت جميلة مع زهية خلف الله بتفجير الكوك هاردي و الأوتوماتيك.

كانت بوعزة تتلقى دوما تموينها من القنابل من جميلة بوحيرد، وكانت تهربها عبر الحواجز بأساليب مختلفة.

وفي فترة الإضراب الشهير الذي دعت إليه جبهة التحرير عام 1957، حيث شلت المدن والقرى الجزائرية بالكامل، وخفت الإتصالات بشكل ملحوظ بين الفدائيين في المدن اتقاء للإعتقالات التي زادت حدتها في تلك الفترة والتي كان من بينها فيما بعد عبد الرحمن طالب، الشاب ذو 26 سنة، وخريج قسم الكيمياء وصانع القنابل آنذاك، واتقاء لأية شبهة وتغييرا في أسلوب العمل، أمرت القيادة جميلة بأن تبحث عن عمل ما فكان ذلك بالفعل، حيث عملت في قسم الصكوك البريدية بالقرب من ساحة الجمهورية / ساحة الشهداء حاليا كموظفة بسيطة.

لكن التحريات والمتابعات أوقعتها في كمين صائب، مما أدى إلى مداهمتها في العمل، حيث قيل لها ان أباها في الخارج ينتظرها، ولما خرجت وجدت النقيب ( غرازياني ) الشهير مرفوقا بستة عساكر. حيث أقتيدت مباشرة إلى منطقة الأبيار وأدخلت عمارة كبيرة كانت في طور الإنجاز، وهناك وجدت زميلتها جميلة بوحيرد وشقيقها الذي لم يكن يتجاوز عمره الاثنى عشر عاما. هالها منظر صديقتها التي كانت تقطر دما من كامل وجهها ورأسها. وفي نفس المكان تلقت هي الأخرى من الضرب والتعذيب ما أفقدها وعيها، وحينها اعترفت بانتسابها إلى جبهة التحرير. واعترفت لمعذبيها بأنها كانت واحدة من اللائي زرعن الرعب في مقهى أو شارع أو بناية وأن بنات الجزائر كلهن جميلة، وهن جاهزات في كل حين لزرع المزيد من الذعر.

وبالرغم من أن هذه الجرأة والشجاعة جلبتا لها الكثير من التعذيب، لم يحصل المحققون من جميلة على شيء يفيدهم. خضعت جميلة خمسة عشر يوما للتحقيقات كانت فيها عرضة للإهانات والتعذيب من كل لون. ثم نقلت بعدها إلى سجن بربروس الشهير، وكانت بوحيرد والعديد من الفدائيات والفدائيين قد سبقوها إلى هناك.

قضت جميلة بوعزة أربعة أشهر كاملة في بربروس، إلى أن جاءت المحاكمة الشهيرة لها ولزميلتها بوحيرد، ومعهما عبد الرحمن طالب، وعبد العزيز مرسلي، والتي كانت نتيجتها الحكم بالإعدام على الجميع.  وكان قد أنشيء في السجن العتيق بربروس زنازن جديدة خاصة بالمحكوم عليهم بالإعدام، هي عبارة عن أقبية غائرة.

قضت جميلة وأخواتها بعد المحاكمة تسعة أشهر كاملة في سجن بربروس، إلى أن جاء الجنرال ديغول إلى الحكم. ونتيجة للضغط العالمي آنذاك على كل استفزازات المستعمر، واحتجاج المنظمات الإنسانية في الكثير من البلدان، وعلى المحاكمة غير العادلة اضطر الجنرال ديغول إلى إلغاء الإعدام بالنسبة للنساء وتعويضه بالسجن المؤبد.  فنقلت جميلة في طائرة عسكرية إلى سجن بومات الشهير في مدينة مارسيليا جنوب فرنسا، ثم نقلت بعدها إلى سجن فران والذي قضت فيه  فترة أطول.  وكانت أيامها فيه أشد مرارة وأقسى، حيث تعرضت إلى ألوان شتى من التعذيب النفسي والجسدي المريرين . كانت وحيدة هناك مرتهبة في زنزانتها الكئيبة ، تعد الليالي والأيام وطولها.  وفي هذه الوضعية القاسية وغير المحتملة كتبت جميلة رسالة مطولة إلى ( ميشلي ) وزير العدل الفرنسي آنذاك؛ محتجة وشارحة حالة القهر التي تعيشها. وبعدها صدر قرار جديد بنقلها إلى سجن بو، في منطقة البيرينيه السفلى على الحدود الفرنسية الإسبانية.  وبعد فترة نقلت جميلة بوعزة إلى سجن يقع في منطقة بروتان، وهناك ظلت إلى أن أطلق سراحها في أفريل عام 1962 حسبما نصت عليه اتفاقيات 19 مارس 62 لوقف إطلاق النار (إيفيان) بين جبهة التحرير الوطني والسلطات الفرنسية في ما يخص السجناء. 


مقاومة الزعاطشة للإحتلال الفرنسي

مقاومة الزعاطشة للإحتلال الفرنسي



مقدمة



تعد مقاومة سكان واحة الزعاطشة من المقاومات الرائدة رغم قصر مدتها حيث دامت المواجهة أزيد من أربعة أشهر من 16جويلية 1849 إلى 26 نوفمبر 1849.


أسباب مقاومة الزعاطشة



تشترك مقاومة الزعاطشة مع غيرها من المقاومات الشعبية في جملة من الدوافع و تختلف في البعض الآخرمنها:


  • رفض الشعب الجزائري القاطع للاحتلال الفرنسي.
  • صدى سقوط النظام الملكي الدستوري بعد الانقلاب الذي أحدثته الثورة الفرنسية عام 1848م ، وقيام الجمهورية الفرنسية الثانية ، وانعكاساتها على الأوضاع السياسية في الجزائر ؛ منها عزل الحاكم العام الدوق "دومال" ، ابن الملك "لويس فيليب"، واستخلافه بالجنرال "كافينيـاك" وذلك يوم 03 مارس 1848م. هذه الأحداث وانتشارها في منطقة الزيبان ساعدت بطريقة غير مباشرة في ارتفاع معنويات الثائرين بالمنطقة وعلى رأسهم الشيخ بوزيان الذي حاول استغلال أوضاع فرنسا المضطربة لإعلان الجهاد.
  • انشغال القوات الاستعمارية المرابطة في مقاطعة قسنطينة بقمع انتفاضات أخرى في أنحاء شتى من الوطن مما أتاح الفرصة للشيخ بوزيان لإعـلان الجـهـاد ، مستغلا قلة عدد القـوات الفرنسية المرابطة بمركزي بـاتنة وبسكرة و غـياب القائد العسكري "سان جرمان"عن دائرة بسكرة و سعيا منه إلى تخفيف العبء على المقاومات المتأججة هنا و هناك بتشتيت جهد القوات الاستعمارية.
  • الإصرار على مواصلة الجهاد كامتداد للثورة التي قادها الأمير عبد القادر باعتبار الشيخ بوزيان كان أحد أعوان الأمير.
  • ارتفاع الضرائب على النخيل ابتداء من شهر مارس 1849م مـن 0,25 فرنك إلى 0,40 فرنك للنخلة الواحدة.
  • التراجع عن مبدأ إعفاء المرابطين من الضـرائب، مما أدى إلى اتساع دائرة التذمر فعرف الشيخ بوزيان كيف يؤطر هذا الاستياء في مواجهة قوات الاحتلال .حيث باشر اتصالات حثيثة مع رؤسـاء القبائل والأعراش، لـتـهـيئـة الشـروط الضـرورية لإعلان الجهاد كجمع المال وشـراء السـلاح وتـخـزين المؤن ...الخ. مما استرعى انتباه أعوان الإدارة الفرنسية .

فـقـام الـمـلازم "سيـروكا" نـائب الـمـكتـب الـعـربي ببسكرة بالتحـرك نحـو الزعاطشة للقبض على الشيخ بوزيان، واصـطـحب مـعـه شيخ بـلدة طولقة ابن الـمـيهوب و بعض الفـرسان وتـوجّـه إلى واحة الزعاطشة ، غير أنهم فشلوا في القبض على الشيخ بوزيان أمام الرفض الذي أبداه مناصروه، حينها عاد الملازم "سيروكا" إلى بسكرة وقدم تـقـريرا مـفـصـلا إلى القيادة، مفاده أن جميع سكان واحـات الزيـبـان ملتفين من حول الشيخ بوزيان ، وأن الجـهـاد قد أعـلن من مـآذن مـسـاجـد الواحات. و لمعاينة الأوضاع عن قرب انتقل رئيس المكتب العربي الضابط "دي بوسكيه" إلى الزعاطشة يطلب من السكان تسليم الشيخ بوزيان لكنهم رفضوا و ردوا عليه: "..إننا نرفض أن نسلمكم الذي تـطلبـون وإننا سنقاتل عن آخرنا رجالا ونـسـاءنا من أجـلـه..".عندها تيقن "دو بوسكيه" أن روح الانتفاضة قـد انتـشـرت في ربوع الـمنطقة .


مراحلـها


مـرّت مقاومة الزعاطشة بثـلاث مـراحل أسـاسيـة هي: مرحلة القوة ومرحلة الحصار ومرحلة التراجع.

مرحلة القوة :

ذلك أن المرحـلة الأولى بـدأت بوصول الفرنسيين إلى الزعاطشة يوم 16 جويلية 1849م تحت قيـادة العقيد "كاربوسيا" حيث شـدد الحصـار على الواحات ، لخنق الثورة وإخمادها في مهـدها ؛ و القضاء على قائدها الشيخ بوزيان حتى يستتبّ لهم الأمـن بالمنطقة غير أنه فوجئ بصمود الثوار، الذين أمـطروا القـوات الفرنسية بوابل من الرصاص قضت على 31 جنديا فرنسيا و جرح ما لا يقل عن 117 ، وبعد سـاعات من الاشتباك اضطر العقيد "كربوسيا" إلى سحب قواتـه تحت ضربات سـرايـا مجاهدي أولاد نائل و بوسعادة و المسيلة ممن التحقوا بإخـوانهم في الزعاطشة.

لقد أعطى هذا الانتصار دعما معنويا و ماديا للثوار و زاد في تأجيج المقاومة بين سكان المنطقة ، فقـام الشيخ الـمرابط سيدي عبد الحفيظ مقـدم إخـوان الرحمـانية باعلان الجهاد ، ولبى سكان واحات الزيبان النداء لتحرير مدينة بسكرة، فاصطدموا بالقوات الفرنسية بقـيادة "سان جرمان" قائد دائرة بسكرة فوقعت معركة سريانة مع بزوغ الفجر شهر سبتمبر 1849 ورغم سقوط القائد الفرنسي سان جرمان قتيلا إلا أن الجيش الفرنسي تمكن من إحكام الحـصـار ، مما أجـبـر سيدي عبد الحفيظ على سحب ما تبقى من أنصاره.

استغل الفـرنسيون هذا الانتصار و ازدادوا اصرارا على الانتقام من سكان واحة الزعاطشة و ان تقرر تأجيل المسألة إلى بداية فصل الخريف . قاد الجنرال "هيربيون" حاكم مقاطعة قسنطينة آنـذاك شخصيا الحصار بعد أن عـيّـن العقيد "كربوسيا" خلفًا للعقيد سان جرمان.

مرحلة حصار الواحة :

باشر الجنرال هيربيون بتجميع قواتـه المقدرة بـ بأربعة آلاف وأربع مائـة وثلاثة وتسعين (4493) جنديًا بـ" كـدية المائدة " المحاذية لبـلـدة الزعاطشة يوم 07 أكتوبر 1849م صباحًا، ثم احتل الزاوية القريبة من الكـدية وسيطرعلى مفترق الطرق المؤدية إلى واحة الزعاطشة لاسيما الرابط بين طولقة و الزعاطشة حتى يحول دون وصول أية امدادات ، ثمّ أعـطيت الأوامر للمدفعية بقـصـف الأسـوار لإحـداث ثـغـرة فيها، إلا ان المقاومة المسـتميتة أجبرت القوات الفرنسية على التراجع بعد أن خسروا 35 قتيلاً من بينهم ضابط و147 جريحا، ثـمّ تمكن الفرنسيون بواسطة المدفعية من احـتـلال الزاوية ورفـع العلم من على مـئـذنـتـها.

ورغم ذلك واصل الشيخ بوزيان شحذ همم المجاهدين وأرسل رسله خفية إلى قبائل بوسعادة وأولاد نائل طالبا منهم المدد.

مرحلة التقهقر و الإبادة:

طالب الجنرال "هيربيون" الـنـجـدة من الإدارة الاستعمارية المركزية في الجزائر وصدرت الأوامر للطوابير العسكرية بالتحرك نحو الزعاطشة قادمة إليها من قسنطينة، باتنة، بوسعادة، سكيكدة وعنابة ، مما شجع المحاصرين من معاودة الهجوم يوم 26نوفمـبـر 1849 بثمـانية آلاف من الجند يقودهم الضابط "بارال" والعقيد "كانـروبار" ولافارود والعقيد "دومانتال" ، ناهيك عن العتاد الحربي. في حين ضربت بقية القوات حصارا خانقا على الواحة تحسبا لأي نجدة تصلها من مناطق أخرى.

أعْـطـيت الأوامر بـإبـادة سكان الـواحــة بما فيهم الأطفال، النساء والشيوخ وقـطع أشجار النـخـيـل مـصـدر رزق السـكـان ، وحرق المنازل ؛ ورغـم ذلك صـمـد السكان ، واشـتـبـكوا مع الجند الفرنسيين بالـسـلاح الأبيض في الدروب ، حتى سقطوا عن آخرهم، حوالي الـسـاعة التاسعة صـبـاحًا، ونكل الفرنسيون بالجرحى ونسفت دار الشيخ بوزيان وسقط الشيخ بوزيان شهيدا، فأمر "هيربيون" بقطع رأس كل من الشيخ بوزيان وابنه والشيخ الحاج موسى الدرقاوي وتعليقهم على أحد أبواب بسكرة .
 

المقاومة الباسلة و الإستشهاد :

يوم 25 نوفمبر 1849م، قرر الجنرال الفرنسي (هيربيون) القيام بهجوم كاسح علي واحة الزعاطشة التي استعصت علي قواته وقسم القوات إلى ثلاث فرق ، لتقوم بالهجوم على ثلاث ثغرات وكل فرقة يتراوح جنودها مابين 700 – 800 جندي ، باستثناء المرتزقة و الأفارقة ( وقوم العرب ) تحت قيادة كل من (الكولونيل دويران – وكان روبار – دورول مون)، وكلف الكولونيل (دمي باك) بقيادة المركز و مراقبة الواحات الأخرى لمنع أي وصول نجدة للزعاطشة مع تركيز وجودها علي مكان تواجد منزل الشيخ بوزيان للتعرف عليه .

قاد هذه الثورة المجاهد الكبير الذي أثر الشهادة والموت في سبيل بلاده علي أن يعيش تحت رحمة المستعمر الفرنسي. وهو المجاهد بوزيان ، الذي أعلن جهاده بواحة الزعاطشة عام 1849 م في الوقت الذي كانت فرنسا تعتقد أن بنهاية الأمير عبد القادر و مقاومته و كذلك الحاج أحمد باي قد وضعت نهاية للمقاومة الجزائرية .

وتحركت الطوابير الفرنسية في شهر أوت من نفس السنة فلم تفعل شيئا ، ثم توالت النجدات شهورا حتى وصلت 5000 مقاتل، وعدد كبير من المدافع.

في 26 نوفمبر 1849 م اهتز العالم والجزائر لمجزرة الزعاطشة ( بليشانة )، الذي اقترفها السفاح الجنرال ( هيربيون ). وجنوده وضباطه في حق سكانها العزل فبعد تعرض جدران القرية للضربات، وقطع أزيد من 10 آلاف نخلة، تمكنت القوات الفرنسية من اقتحام القرية الصامدة الباسلة مما تسبب في مواجهات دامية بالسلاح الأبيض وقد شارك فيها حتى النساء والأطفال يقاتلون جنبا إلى جنب مع الرجال في كل الشوارع والأزقة، وألقي القبض علي الشيخ أحمد بوزيان زعيم الزعاطشة، وابنه الذي لا يتجاوز من العمر السادسة عشرة والشيخ موسي الدرقاوي، في يوم 26 نوفمبر1849م، وقطعت رؤوسهم بعد ذلك، وعلقت على أبواب مدينة بسكرة عدة أيام، ثم نقلت إلى القسم الانتروبولوجي بمتحف اللوفر بفرنسا.

نتائج المقاومة :

  • انتهت مقاومة الزعاطشة بخسائر فادحة حيث خـربت الواحة بكاملها حيث مارس فيها الفرنسيون أبشـع أنـواع التعذيب و الإجرام التي ينـدى لها جـبين الإنسـانيـة، بقطـع رؤوس البشـر وتعليقـهـا على الأبـواب أو على خنـاجـر البنادق نكاية في الثوار، بينما خسر الفرنسيون 10 من ضباطهم برتب مختلفة و 165 جنديا قتيلا وإصابة 790 بجروح متفاوتة الخطورة، أما في صفوف المقاومين فتذكر المصادر الفرنسية العثور على 800 جثة وعدد آخر غير محدد تحت الأنقاض و قطعت أشجار النخيل عن آخرها.
  • أثارت مقاومة الزعاطشة تـضامنًا ديـنـيًا ووطـنـيًا واسـتـغـراب الـعـدو من إصرار الـسـكان على إفـشـال مخـططاتـه.
  • احـتلال مـدينة بوسعادة ، لأنها قامت بانتفاضة بـقـيـادة محمد علي بن شـبــرة، وهو زعيم ديني دعـا إلى الـجهـاد أثناء مقاومة الزعاطشة وأرسـل بالنـجدة إلى الشيخ بوزيان .
  • توسيع دائرة الانتقام بحـرق واحــة نـارة الواقعة على وادي عـبـدي بـالأوراس، والتي لقيت نفس مصير الزعاطشة يوم 05 جانفي 1850 على يـد العقيد "كارويير" ؛ بعد أن تقدم إلى القـرية بـقوة قـوامـها ثـلاث فـرق من الجيش استباح بها القـتـل والهـدم وإحـراق القرية بكاملها.




قراءة لتاريخ الإستيطان الفرنسي في الجزائر

الإستيطان الفرنسي في الجزائر

صعود وهبوط اللاتيني الجديد في الميدان الجزائري

بقلم إسماعيل زاير

كثيراً ما كرر الجنرال ديغول قوله «بأن الجزائر ستبقى فرنسيه، كما فرنسا بقيت رومانية» ولكنه بعد اعتزاله الحياة السياسية لم يعد الى ذلك. في دوائر تلك السياسة، التي امضى ديغول قسطاً كبيراً من طاقته لمحاربتها، تلوث حلمه وتداعت أعمدة حكمته. ذات يوم متأخر وهو يدون مذكراته قال لصفيه، ووزير ثقافته اندريه مالرو: انا عجوز همنغواي، الذي لم يعد الا بهيكل السمكة.

كان قوى الشكيمة، وربما صنديداً، الا ان سياسيي فرنسا مع ذلك هزموه. وهو اذ لم يتفوق عليهم الا وهم في اكثر لحظات الضعف والافلاس، ادرك ان آفة فرنسا في سياسيها. السياسيون الذين حملوا مشروع الجنرال بعد موته فككوه ثم اعادوا تركيبه. اخرين عملوا على استيعاب موروثة في تقاليدهم.

احد هذه المواريث ما يعرف بالأقدام السوداء، وهؤلاء هم المستوطنون الفرنسيون الذين وفدوا الى الجزائر تحت ظل احتلالها، ومن ثم ضمها للأراضي الفرنسية وهربوا مع انحسار الاحتلال الى فرنسا.

وبلغ عدد الاقدام السوداء نحو مليون شخص، كان لديغول عليهم تعويلاً كبيراً في حمل رسالة الفرنكوفونية داخل السلطة الجزائرية الجديدة لقد كانوا حزبه، او «حزب فرنسا» اذا شئنا الدقة، قبل ان ينالهم الهلع الكبير من الانتقام المقبل مع نزول مقاتلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية من الجبال، ولم تتوقف موجة الهرب على الاقدام السوداء، بل امتدت الى ما يسمى في الجزائر ب«الحركيين» ايضاً، وهم الشريحة التي عملت مع الاحتلال الفرنسي من بين مواطني الجزائر، والذي بلغ عددهم نحو 800 الف حركي، تشبه ظروفهم ظروف المتعاونين مع الاحتلال الاسرائيلي مع مخبري الشرطة الاسرائيلية.

ومع المخاض الذي رافق عملية اتخاذ القرار بالانسحاب الفرنسي من الجزائر استقتل هؤلاء في الحاق الأذى بالشعب الجزائري. وانغمسوا في كل انواع المؤامرات والفتن ليزيدوا الحرب ضراوة، ويعيقوا السلام القادم. حاربوا فرنسا ذاتها من اجل البقاء في الجزائر. في النهاية فرنسا اضطرت الى استيعاب حزبها الجزائري هذا.

في الحلقات التالية زيارة للوقائع التاريخية والاجتماعية التي رافقت الموروث الفرنسي الذي ارسى بذرة الهجرات والعواصف، او محاولة تتبع لمقتربات وخيوط هذا الموروث وتجسدانه المعاصرة.

الضفاف الثلاث لنهر السين

لم تكن فرنسا قادرة ولا حتى راغبة في اخفاء الطبيعة العسكرية البحته لوجودها خلال الفترة الاولى التي اعقبت احتلال الجزائر وانتهاء مقاومة الامير عبد القادر.

اما المستوطنون فقد كانوا يوافقونه على منطقة باريس في تعاملها مع الممتلكات الفرنسية شمال افريقيا، لانهم كانوا مرتبطين اساساً بالجيش الفرنسي في ادارة شؤونهم. ومنذ عام 1884،وهو تاريخ تعيين اول حاكم للجزائر، كان هذا الحاكم يجمع السلطات المدنية والعسكرية بين يديه.

ولكن مع تزايد اعداد المستوطنين اخذوا يبحثون عن دور اكبر في شؤون الادارة. وأظهروا دعمهم للقادة العسكريين في مسعاهم لاحتلال الجزائر بكاملها. وقد ظلت جهودهم كما رأينا في الفصل السابق تصطدم بمقاومة باريس اولاً، والجنرالات ثانياً. حتى جاء عام 1870 حيث أعلن الحاق البلاد تحت سلطة وزارة الداخلية.. وسمح للمستوطنين بتمثيل مناطقهم في البرلمان الفرنسي بوصفها جزءً من ارض فرنسا وبعد عام من ذلك عن اول حاكم مدني عام للبلاد مسؤول مباشرة وزارة الداخلية.

وابتداءً من ذلك التاريخ برزت على نحو واضح مقارنة مع الحقبة الماضية، مظاهر من عداء متزايد بين المستوطنين المحافظين ونابليون الثالث، وقد عارضوا على وجه التحديد سعيه لتجسيد الجزائر بأنها «المملكة العربية»، التي يحق فيها للجزائريين والمهاجرين الاوربيين ان يتمتعوا بحماية ملكهم الفرنسي على قدم المساواة»(1). كما وجه المستوطنون انتقاداتهم ايضاً الى الكنسية الكاثوليكية، لما تقوم به من اعمال. وكانت البعثات التبشيرية وهي تجتذب الى المسيحية الساكنة الجزائريين، تقوم بتقديم خدمات حياتية مختلفة لهم، وتدمج ابنائهم في مدراسها وتبعث بقسم منهم الى باريس لمواصلة عملية الاندماج. ودفع التكوين القومي المتنوع للمستوطنين او اصولهم الدينية المتباعدة الى خلق مصالح مشتركة لا تلعب الكنسية دوراً اساسياً منها. كما أن الدوافع الوطنية التي تسببت لقسم من الفرنسيين بالنفي الى الجزائر لم تساعد على تدجين هؤلاء في ظل المؤسسة الكنسية. ولما كانت المتطلبات الحياتية المطروحة امام أي سلطة احتلال لا تمت للتعاليم المقدسة بشيء فإن التعارضات الصغيرة أو المنهجية كانت امراً لابد منه.
ولعب عامل الزمن دوره في امحاء الطابع الفرنسي التقليدي لدى جيل الآباء. ويذكر هنا مثلاً انه 12% فقط من المستوطنين كانوا قد ولدوا في فرنسا حسب الاحصاء الذي تم عام،1936 وطرأ تغيير مضطرب على طبيعة الأعمال التي يؤدونها ايضاً. فقد قل عدد المزارعين الذين يرتحلون الى الجزائر ابتداءً من الحرب العالمية الاولى، في حين ارتفع عدد العمال والتجارة ورجال الاعمال وموظفي الحكومة(2). وقد ترتبت عند ذلك اجراء عملية المادة تنظيم الاراضي ومن ثم ايقاف عمليات الاستيطان «الرسمي» عام 1920 .

ومع تركز وتعمق المصالح الاقتصادية للمستوطنين، تراوحت علاقتهم مع الادارة الفرنسية وتفاوتت مواقفهم، فقد كانوا خلال العقود الاربعة الاولى من الاحتلال بأمس الحاجة الى تدخل باريس لتأكيد حقوقهم وحمايتها، ولكنهم ابتداءً من 1870، وبعدما حصلوا على الحكم الذاتي، شرعوا في استعمال قوتهم الاقتصادية الجديدة في فرض الضغط السياسي على فرنسا. ومع تبدل الاوضاع الدولية وتقلبات الظروف وجد المستوطنون أنه ليس بمقدورهم تحت ضغط المصالح الحياتية إلا الوقوف بوجه باريس، والسعي الى اعاقة أي مسعى تقوم به، ويترتب عليه الاضرار بوضعهم، فبقدر ما كانت سياسة الادماج التي اعتمدها باريس مؤاتيه لمصالحها فأنها كانت بقدر اكبر، متعارضة مع مصالح المستوطنين اذ اعتبروا أنه هذه العملية ستسمح باندماج كتل بشرية واسعة في الكيان الفرنسي، في الوقت الذي كانوا يصرون فيه على الغاء أي دور للجزائريين في الحياة المدنية. وقد تعارضت آرائهم القائلة بوجوب افناء الجزائريين والقضاء عليهم مع اراء الليبرالية السياسية في باريس في اثناء حكم الجمهورية الثالثة، التي كانت ترى أنه من الضروري تدريب السكان على الأعمال الرخيصة.

وقد عارضوا على طول الخط الاصلاحات التي اقترحتها باريس لصالح السكان الذين حاربوا تحت الراية الفرنسية في اثناء الحرب العالمية الأولى . وشنوا غداة انتهاء الحرب حملة على اقتراحات رئيس الوزراء «كليمنصو» المشابهة وهددوا بالانفصال(3).
وبلغت حدة مواجهتهم لنابليون الثالث وحزبه البونابرتي درجة كبيرة ، كما ولقي الحاكم الفرنسي العام الجنرال «ايستر هازي» الذي عينته باريس مصرعه على أيديهم. وظلت فرنسا تعاني من أثر الاختلاطات الخطرة بين حدودها وحدود المستوطنين ولكنها لم تكن على أية حال قادرة على اعطاء الإجابة الحاسمة في الوقت المناسب.
وقد تجسد هذا الاختلاط في الوحدة التلقائية بين تطلعات المستوطنين الذين تحرروا من الالزاس واللورين، وأولئك المتمردين على سلطة الامبراطور والجيل العسكري الجديد من ابناء المستوطنين الاول، والمغامرين الإسبان الذين انضموا تحت الراية المثلثة الالوان للهكساجون، والقسس الذين عذبهم الركام اللاهوتي، ورواسب العنصرية الدفينة. كلها انصهرت في بوتقة واحدة كأن وعائها ومناخها «شريعة الاستيطان». ونجد هنا ترجمة مهمة للنفسية التي تخوض عنها هذا الخليط في قول كتبه رئيس وزراء فرنسا جول فيري عام 1892: « لقد قمنا بدراسة نفسية المستوطن دراسة دقيقة شاملة… فوجدنا أنه انساني محدود للغاية. ومن المؤكد أنه الكفاءة العقلية ليست هي السبب الذي يجعل المستوطن المتحكم الى حدما في مصير اهل البلاد. ففيه تتجسد كل صفات العامل المجد والوطني، ولكنه لا يملك ما يمكن للإنسانية أن يسميه بفضيلة الفاتح، وهي التي تتمثل في انصاف الروح والقلب، وفي الاحساس بإحقاق الحق للضعيف، والتي لا تتعارض مطلقاً مع صلابة الحكم. ومن الصعب على المستوطن الاوروبي ان يفهم بان ثمة حقوقاً اخرى غير حقوقه في البلاد العربية. وان ابناء هذه البلاد ليسوا شعباً خلق للعبودية او للتكبيل بالاصفاد.. أو كما يعلنون بأنه شعب غير قادر على تحسين وضعه او على تقبل العلم»(4).

اما الجنرال كاترو وهو الخبير بشؤون الادارة الاستعمارية الفرنسية فيقول في كتابه «معركة البحر الابيض المتوسط» عن المستوطنين في الجزائر ما يلي :
«انهم يعيشون تحت سيطرة غرائزهم اكثر مما يعيشون وفقاً لمتطلبات العقل وتأثيرات المثل العليا، وقد ظلوا عن طريق الوراثية الرجعية، على النحو الذي كان عليه اباؤهم، عندما ذهبوا الى أفريقيا لاستيطانها. ينفذون بحماس فائق مشاريع لها طبيعتها ومصلحتها الفردية. وهم يمثلون على ضوء هذا مجموعة من الافراد اكثر من تمثيلهم لجماعية محددة، تقوم على عدد من الاسس والتقاليد….. ويفتقر هؤلاء الرجال على الرغم من حسن نيتهم، الى مشاعر من الفضائل الروحية، والى تقليل من المفاهيم المادية.. وهم يفتقرون ايضاً، الى خميرة كريمة وأصيلة من الثقافة غير المتحيزة، والى تذوق الافكار. ويتضخم هذا الافتقار مع مرور السنين ومع ازدياد الثروة»(5) .
ويقرنه جان دانيال وهو فرنسي ليبرالي المستوطنون مع جنوبيو الولايات المتحدة قائلاً:
«يشترك الاثنان في اكثر من صفة واحدة. لعل في طليعتها: الشجاعة واستمرار الحركة، وضيق الافاق، والاعتقاد المتأصل في نفوسهم بأنهم خلقوا ليكونوا سادة، وليكون غيرهم عبيداً. وأنه أية محاولة لتبديل هذه الفروق عمل يستهدف نشر الفوضى، ويمتازون ايضاً بالعطف على الخدم، شريطة أن يظهر هؤلاء الرغبة للبقاء دائماً من الخدم.»(6)

ولكن ذلك لم يكن ينبت دون أن تتوفر له تربة ملائمة، وقد كانت هذه التربة وليدة خيبة الجنرالات الطامحين الى اثبات وجودهم، وتراكمات الذرائع التي قدم فيها المشروع الاستيطاني ذاته باستعمالهم . ومع تواتر الممارسة انمحت المسافة الفاصلة بين الشرف والوطنية، وبين الجريمة والكفاح، وبين السرقة والمصادرة، والحق والضرورة والحرية والتعسف.
فقد امتدت خيوط الاختلاط منذ لحظة الاحتلال الفرنسي للجزائر الى مجمل التاريخ الرامي لوجود المستوطنين بفعل النار التي كان يزكيها العسكريون لتعبئة هؤلاء. ونذكر هنا اول الكلمات التي قيض للجنرال دوبورمون أن يتفوه بها بعد أن ثبت اقدامه في البر الجزائري مخاطباً جنوده بقوله: «طوبى لكم ..لقد جددتم عهد الصليبين.»
أوبوجولا الذي كان يرى ان الهدف من الحرب في الجزائر هو أقدس وأسجى من حروب فرنسا في اوروبا، وذلك لأنه «موضوع الصراع هنا هو القضية المقدسة» قضية الحضارة، قضية الافكار المسيحية الخالدة»(7) .

وزعم «سكور تيسكو» أن نجاح الاحتلال الفرنسي للجزائر قد اوجد ثغرة في العالم الاسلامي، وشدد لوك ج. لوفيبر من جهته على أن المعركة انما : معركة الصلبين ضد الهلال.

ووسط الالتباس اليومي التاسع الذي وجد الجنرالات انفسهم مضطرين فيه لاستعمال لغة تصب في مجرى الاوهام هذا. فما هو الجنرال بيجو يكيل «المديح للجيش المتحلي بكل الخصال الحميدة»، ويضيف « عندما نقول الجيش فإننا نعني المدنيين المجندين» لأنه كان يعتمد عليهم في مهمة «تغيير عادات الاهالي» وهي استعارة مهذبة جداً لتطبيق تعليمات الإدارة بخصوص السكان الاصليين(8).

وبرغم أن الجنرال بيجو يعد جمهوري الميول إلا انه لم يجد سبباًُ يدعوه الى الامتناع عن اطلاق يد جيوشه لتنفيذ سياسة التنصير الفوري(9)،مع أنها كانت تتعارض مع سياسية «لويس فيليب». وقد اشاع الجنرال مفهوماً يدعي أن الضباط والجنود دائماً يعدونه جنوداً للمسيح في أفريقيا. وساعدت اجراءاته الجمعيات المسيحية على تعميق الروابط بين الجندي والقسيس، معولاً على الخصال الحميدة والأعمال الصالحة التي تمارسها هذه الجمعيات. وقد منح هذه اقطاعيات خاصة استثمرتها لمستعمرات زراعية بوسعها المساعدة على استحالة قلوب العرب بعد اخضاعهم بقوة السلاح. واشتهرت من هذا الجمعيات جميعة «الاخوة لاتراب»، والتي تطلع اليها العسكريون كانموذج وقدوة حسنة لنشر افكار الأنجيل، وبإمكانها التقدم حتى تتحول الى مؤسسة دينية زراعية، عسكرية كبرى(10).
وهكذا نرى أنه تبادلاً في الأدوار والوظائف قد جرى خلال عقود من السنين بين الجنرال والقسيس بحيث لم تعد هنالك فائدة ترجى من تقصي حدود هذا التبادل. واختلطت اخلاقيات الرهبنة بالبراغماتية العدوانية العسكرية. وأصبحت علمية الاستيطان ضرورة لابد منها، ليس للجيش والدولة الفرنسية فقط، وانا للكنسية ايضاًُ. بوسعنا هنا أن نستشهد بما اولى به الجنرال «فالازلي» عندما قال في جلسات لجنة افريقيا البرلمانية عام 1834:
«ان منظر هؤلاء الرجال العرب المتمتعين بالكمال الجسماني والمكتملي الرجولة هو الذي أثار انتباه الجنرال بيجو. والذي جعله يعرف ان وجود هذه الأمة القوية العتيدة المستعدة كامل الاستعداد للحرب،والمتفوقة على العناصر الأوربية التي كان ينوي ادخالها الى البلاد, كل ذلك حتم عليه أن تختار فرنسا العناصر القوية من الأوربيين لتوطينهم امام أولئك العرب. وجنباً الى جنب معهم وبين ظهرانيهم»(11).

هكذا نرى بوضوح كيف أن العنصر الذي استند اليه الجيش لدحر استعداد العرب وتفوقهم، اصبح فيما بعد عقبة ومصدراً للقلق وهدد في فترات دقيقة ديمقراطية البلد الأم نفسها.

ان فرنسية جيل المستوطنين وولائهم كانا مشروطين بالمصالح المباشرة لهم بلاشك. ولكن التخلص من حقيقة الانفصام بين مجتمع المستوطنين والمجتمع الفرنسي لم يعد ممكناً. فقد تغذت العوامل المتناقضة في إهاب المجتمعين داخل جسد واحد. وقد عزز هذا الوهم السعي لتجسيد فكرة مبتكرة تستند الى اخلاقية المواطن «اللاتيني الجديد» كما كانوا يدعونه. هذه الاخلاقية التي ترتكز الى الشعور بالتفوق والسيادة. وفاقم من حرارتها انتشار حمى الاخضاع التي وصلت لفرط فظاظتها الى مستوى سادت فيه المسافات لا تتصل منطقياً بالتاريخ والحضارة الأوربيين. وقد عنت معقولة «اللاتيني الجديد» فرض معاملة شعب بأكمله كرهائن بما في ذلك أعيان البلاد، وحتى انصار الاحتلال والاستيطان منهم. ويذكر التاريخ عن هذا ما قام به الدوق دوفال المعد كانموذج للشرف الفرنسي عندما اقدم على اعدام هؤلاء بعد تلبيتهم لدعوة رسمية منه(12).
ومن ناحية أخرى لفق كافينياك، والذي كان، ياللمفارقة جمهوري النزعة يجمع بمنتهى العناية كل ما يقع تحت يديه من شواهد متصلة بالاحتلال الروماني، مهما كانت صغيرة لكي يقتضي الأثر الذي تركوه. كما أمر بإجراء الحفريات ليستخرج الأثار التي تبرهن للبدو (يقصد الجزائريين) بأن الأوربيين لهم حقوق قديمة في امتلاك البلاد.

وقد راع المستوطنون صمود العل البلاد وبقاءهم في اراضيهم، لذا فقد تقدمت الادارة بمشاريع عديدة لترحيل المواطنين منها الى جزر ماركيز». واقترح القبطان ريشار سنة 1845 تجميع الاهالي في مناطق معينة. ولكن مشروعة لم ير النور الا نهاية الخمسينيات واحتدام الصراع العسكري مع جبهة التحرير حيث انشأت «المحتشدات» البغيضة الصيت.

وعندما فرضت عليهم الظروف قبول هذا البدوي والاعتراف بوجوده فأنهم حدودا له طبيعة المهمة التي يضطلع بها. ووفقاً لهذا فقد كان العربي المطلوب هو العربي الخاضع. وابرزت قناعاتهم هذه الحقيقة بوصفها اساسية للانطلاق في أي عمل بهذه البلاد. ولعل اكثر التعبيرات دقة في وصف ذلك ما اوردته صحيفة التل«LA TEll» عام 1865 عندما قالت :«على كل واحد من سكان البلاد، الجندي بسيفه، والمعمر بمحراثه، والراهب بصلاته، والعربي بخضوعه ان يجعلوا من هذه القوى كتلة واحدة لكي تحقق الجزائر المستقبل الباهر الذي كتبه الله لها».

وكما اسلفنا فقد بدأ المستوطنون جمهوريين، عندما كان الامر يتعلق بسياسة لويس فيليب ،والتي ظهرت مجاملة اكثر مما يحتمل للسكان العرب. فحلت جريدة الاستقلال الصادرة في قسنطينه عليه قائلة:
«لن نرضى ابداً بهذا الشخص المنتمي لعائلة بونابرت. فالولاء لإنجلترا افضل لدينا من الخضوع لأوامر هذا السافل الدنيء….ربما سنفقد حينئذ اسم الجمهورية وسوف تصبح شكلياً، رعايا المملكة، إلا أننا سوف نتجمع على كل حال باستقلالنا الذاتي …وسوف يتطور الاستعمار تطوراً منقطع النظير، وسوف تحول الاراضي التي تركها الحكومات الفرنسية ذات الميول العربية للمسلمين الكسالى»(13) .

ولم يتورعوا عن الاتصال بغاريب لدي الذي التجأ الى «كابريرا». وكأن جنوده المشردون في كل مكان يتوافدون الى الجزائر حيث كان المستوطنون يعتزمون استعمالهم للقيام بانقلاب ضد فرنسا. بل ان وفداً منهم قابل «غاريب لدي» وطلب منه ان يستلم زمام الحكم في الجزائر(14).
وخلال الحرب العالمية الثانية ابدى المستوطنون تعاطفهم مع سياسات حكومة فيشي الديكتاتورية المناهضة للسامية، وغرق اليهود في بحرين من الجنون الهستيري للمستوطنين، حيث راح ضحية العنف عدد كبير منهم وسط اصطحاب العاصفة والمدن واكاليل الزهور المقدمة لابطال المذابح التي اقترفت بحق اليهود. وكان يهود الجزائر قد حازوا على الجنسية الفرنسية، وفقا لمرسوم يدعى «قرار كريميو».ولكن اجواء الحكم الفرنسي بقيادة فيشي شجعت المستوطنين على نقض هذا القرار واعادة التعامل معهم بأعتبارهم يخضعون، كما الجزائريين لنظام «الانديجان» أي خدمة الاجانب(15).

وقد تأسس في الجزائر حزب على غرار الحزب النازي، وكان 80 % من المستوطنين مؤيدين لحكومة فيشي، كما أنهم نظموا حملات متصلة لتأمين المعونة والذخيرة للجيش الالماني النازي، على أرض افريقيا والذي كان يقوده الماريشال «روميال»(16).
« ان فرنسا امام خيارين: اما ان تكون دولة استعمارية قوية الجانب، واما الا تكون شيئاً على الاطلاق» هكذا كتبت صحيفة « لاقيدبش لاكوتيديان « على لسان السيناتور بورجو!!.

ولكن فرنسا كانت حقاً امام خيارات صعبة.. فمصالح الدولة الفرنسية لم تتطابق مع هذه الاطروحات. وكان التناقض المنطقي واضحاً في أن أي صعود لمهابة «اللاتيني الجديد»، ومهما كانت الافاق الفرنسية البحتة، والتي تصب في ذات المجرى الاستعماري، وردية، الا أنه سيكون على حساب سلطة باريس. الامر الذي لم يكن بوسع الادارة القبول به. كما أن الافرار بمنطق المستوطنين هذا انما يعني ان مركز فرنسا سينحرف تدريجياً من باريس الى مستعمراتها ويتحكم فيه جنرالات طامحون ومعهم جيش المستوطنين العصي على السيطرة.

الهوامش:


1. جوان غيلسبي ALHENIE ،REBELLION،AEVODHTION/ الناشر:فردريك بريغير –نيويورك 1960-صـ17-الطبعة العربية.
2. المصادر السابقة صـ18
3. المصادر السابقة صـ20
4. أندريه جوليان-وستيفنس/مستودع البارود في شمال افريقيا صـ20
5. جوان غيلسبي/مصدر سابقة صـ23.
6. جان دانيال /الاكسبريس عدد 4 جوان 1955.
7. الجزائر/الامة والمجتمع-مصطفى الاشرف صـ58.
8. التنصير:بمعنى جعل الناس يدخلون في المسيحية واصل الكلمة من نصراني اي اتباع المسيح ابن الناصرة».
9. LE SEMAINE EN ALGERIE FWANCAISE ANNEE 1959 NO:42
10. استقر الاخوة لاتراب في منطقة اسطاوالي القريبة من العاصمة واقاموا جمعية تبشيرية دينية،اشتهرت ايضاً بأنواع الخمور التي تصنعها.ومازالت صناعتها سائدة في السوق الجزائري.ولكن ملكاً للدولة.
11. J.HESS: LO VERITE SHR L”ALGERIE B-294
12.المراجع السابقة
13.جريدة»GA IN BED WNBANT»(G) فبراير 1871.
14. الجزائر/الامة والمجتمع-مصدر سابقة صـ70.وينظر ايضاً كتاب ج.هيس المذكور في هامش (11) صـ298.
15. قرار كريميو اقر عام 1896-ونظام الانديجان يخص غير الفرنسيين.
16. الجزائر/الامة والمجتمع-مصدر سابقة.