الجيش الإنكشاري و وضعه بالجزائر - تأسيس أوجاق الجزائر

الجيش الإنكشاري و وضعه بالجزائر - تأسيس أوجاق الجزائر


عرفت الجزائر أول تدفق للإنكشارية في سنة 927 ه/ 1520 م، إثرإرسال "خير الدين بربروس"، بموافقة من أهالي الجزائر، طلب الانضمام إلى الدولة العثمانية، حيث أرسل السلطان سليم الأول ( 1512-1520 م) إلى الجزائر ألفين ( 2000 ) من الإنكشارية و 4000 من المتطوعين الأتراك، لتدعيم قوة "خير الدين"، المؤلفة آنذاك، من 5000 جندي، لتثبيت حكمه من جهة، وحماية الجزائر من الهجمات الإسبانية من جهة أخرى، ومنذ ذلك التاريخ أصبح للجزائر جيش إنكشاري خاص، عرف ب"أوجاق الجزائر"، بجميع هياكله ومؤسساته وكان استقراره بمدينة الجزائر، حيث بنيت له ثكنات للإيواء ونظمت قوانينه وحددت أجوره.

عملية التجنيد:


خول السلطان سليمان القانوني ( 1520-1566 م) ل"خير الدين بربروس"، حق التجنيد من مناطق الأناضول، ابتداء من سنة 1525 م، ومنذ ذلك التاريخ أصبح للجزائر، وكالات خاصة منها خان إزمير يقيم فيه الموظفون المشرفون على جمع المتطوعين وإرسالهم إلى الجزائر وكانوا يعرفون ب"الدائيات"، يرأسهم "باش دائي"، كما كان لها موكل بميناء إزمير بالأناضول، يسجل المتطوعين من شباب المنطقة ويقدم لهم كل المغريات المادية والأدبية للالتحاق بالعمل العسكري في إيالة الجزائر،"جزائر الغرب" أو "دار الجهاد"، وعلى رأس هذه المغريات جمع الثروات والوصول إلى المناصب العليا في الدولة.

وكان التجنيد للعمل بالجزائر يتم بطلب من حكامها وبترخيص من الباب العالي، وكان باستطاعة السلطان إيقاف التجنيد إذا أراد الضغط على ولاة الجزائر، خاصة فيما يخص السياسة الخارجية للأوجاق، لكن ونظرا لحاجة الدولة العثمانية لمزيد من الجند لحماية ولاياتها، وتضاءل دور عملية " الدوشرمة " في تغطية هذه الاحتياجات، أعطى السلطان العثماني لإيالة الجزائر الحق في تنظيم عملية التجنيد بين مسلمي الأقاليم العثمانية، وهو ما عبرت عنه رسالة السلطان محمود الثاني، بتاريخ 1231 ه/ 1815 م، إلى عمر باشا، داي الجزائر، يسمح له فيها باختيار الجند التركي المتطوع من ميناء "إزمير"، وفي نفس الموضوع وصلت رسالة إلى حسين باشا بتاريخ 1239 ه/ 1823 م، للسماح له بالتجنيد مجددا من الأراضي العثمانية، بعد توقف هذه العملية بسبب الخلاف الذي وقع بين الإيالة والدولة البريطانية، وقد سمح له بذلك بعد تطبيق الداي للصلح مع بريطانيا نزولا عند رغبة السلطان.

لهذه الأسباب كان معظم إنكشارية الجزائر ينتمون إلى أصول مسلمة، وكان أغلبهم من فقراء الأناضول والشبان المغامرين من أجل الثروة والجاه، وبعض المتطوعين للجهاد، ويعد العلوج les renégats المسيحيون الذين اعتنقوا الإسلام بغرض الدخول في نظام الإنكشارية والفوز بامتيازاته، من بين العناصر التي انضمت إلى إنكشارية الجزائر، وأصبحوا، حسب تعريف "هايدو"، "أتراكا بالوظيفة"، وذلك عكس إنكشارية الأناضول الذين تكونوا عن طريق نظام "الدفشرمة".

كان التجنيد في البداية يتم بين الشجعان والمستقيمين أخلاقيا، ثم أصبح يجمع من بين المشردين والمجرمين الفارين من العدالة، وهو ما اتفق حوله معظم المؤرخين للعهد العثماني بالجزائر ومنهم حمدان بن عثمان خوجة، الذي أعاد سبب انحطاط حكومة الجزائر إلى هذه النوعية من المجندين، قائلا:" كان من أسباب انحطاطها إرسال مندوبين إلى إزمير يجمعون الأجناد، وبدلا من أن يتبع هؤلاء الطريقة القديمة التي لم تكن تسمح بأن يجند من الميليشيا إلا الرجال النزهاء الذين لهم جاه ومكانة فإنهم كانوا يفتحون أبواب الميليشيا لأي كان حتى لأناس كانوا قد أدبوا أو أدينوا وكان يوجد بين المجندين يهود ويونانيين ختنوا أنفسهم"، ويبدو أن الباب العالي نفسه كان يشجع على ذلك لإبعاد العناصر المنحرفة عن أوطانهم محافظة على الأمن، وهو ما عبرت عنه بوضوح عريضة، بتاريخ 1219 ه ( 1804 م)، تحث على إرسال "أشقياء يتراوح عددهم بين 40 و 50 شقي"، تسببوا في أحداث شغب بقرية دومنجي بجزيرة قبرص، للجهاد بإيالة الجزائر، ومما جاء بالعريضة: "إن الشيء الذي نلاحظه بشأن هؤلاء الأشقياء الذين استحقوا أشد الجزاء من الدولة العلية لارتكابهم أعمالا تبرر ذلك، أن يبعد هؤلاء من أوطانهم وأهليهم ويرسلوا إلى أوجاق جزائر الغرب المنصورة التابعة للحضرة الخاقانية من أجل الجهاد في سبيل الدين والدولة ومن أجل إصلاح النفس وتهذيبها أيضا في تلك الديار المجاهدة مع السفينة التي وردت إلى الجزيرة بأمر من قبطان البحار لجلب الجنود إلى الجزائر".

وكانت عملية التجنيد، في بداية الحكم العثماني للجزائر، تتم تحت إشراف ونفقة السلطان العثماني، إذ أصدر السلطان سليم الأول ( 1512-1520 م) فرمانا يقضي بمجانية نقل المجندين إلى الجزائر التي أصبحت إيالة Eyalet (إقليم حدود) عثمانية، وضمان انخراطهم في الأوجاق بأجور منتظمة، كما أمر بإصدار جواز مرور السفن الجزائرية بالموانئ العثمانية باعتبارها وحدات في الأسطول العثماني، إلا أن ذلك الوضع لم يدم، إذ أجبرت حكومة الجزائر، بعد استقلالها عن الباب العالي، سنة 1671 م، على تحمل جميع نفقات التجنيد.

ثكنات الإنكشارية بمدينة الجزائر:


عند وصول المجند إلى مدينة الجزائر، مقر إقامة جميع المجندين، يستقبل في ثكنة خاصة بالمجندين الجدد بعد أن يسجل اسمه واسم أبيه وموطنه الأصلي وحرفته القديمة في دفاتر خاصة بالإنكشارية (دفتر يكيجيري)، كما يسجل ما له من صفات خاصة مثل " صاري " ومعناها الأشقر، و" أوزون" ومعناها الطويل، وغيرها من الألقاب التي تشير عادة إلى العاهات التي يحملها المجند مثل :"قلا قسيس " ومعناها مبتور الأذن و"طوبال Topal وتعني الأعرج و"قور " kor أي الأعور، و"نقسيس" ومعناها بوصبع، وغيرها من الألقاب التي كان يعتز بها الإنكشاري باعتبارها علامة من علامات بطولاته في المعارك، وبعد التسجيل يعطى للإنكشاري رقم خاص يشير إلى الأوجاق الذي أصبح ينتمي إليه، وترسم على ذراعه علامة تدل على انتمائه إلى الأوجاق ولا يبدأ العمل إلا في الربيع الموالي.

ويقسم المجندون إلى "أورطات"، جمع " أورطة" وتعني الوسط، وتعرف أيضا ب"أوجاق"، وأحيانا باسم "جماعت"، وهو ما جاء في سجلات أجور الإنكشارية ، وهي وحدة عسكرية، يختلف عدد أفرادها من ظرف إلى آخر ومن مكان إلى آخر، ويتراوح بين 500 و 1000 جندي أو أقل بالنسبة للنظام بالقسطنطينية، أما بالجزائر فضمت، حسب سجلات أجور الإنكشارية ، ما بين 11 و 100 رجلا، وإن سجلت ثلاث حالات نادرة وصل عدد أفراد الأوجاق فيها إلى 110 و 123 و 238، وبلغ عدد الأورطات في الجزائر، حسب نفس المصدر، 424 أورطة أو أوجاق ، مرقمة من 1 إلى 420 بسبب تكرار بعض الأعداد في السجلات و سقوط البعض منها.

قسمت أورطات الإنكشارية إلى عدد من الصفرات، جمع صفرة، وتعني المائدة التي تضم 16 فردا منهم "وكيل الخرج"، المقتصد، و"الآتشي" (الطباخ).

وزعت هذه الأورطات، في مدينة الجزائر، حسب الدراسة التي نشرها كل من A.Berbregger و A.Devoulx بالمجلة الإفريقية على ثمان ثكنات، مكونة من عدة طوابق و قادرة على استيعاب حوالي 12000 فرد في ظروف جد حسنة،عرفت ب"إنيجيري أوده لرى" (دار الإنجشايرية) أو "قشلة " و يعود بناءها، حسب L.deTassy، إلى سنة 1650 م، إلا أن A.Berbregger فند ذلك وأعادها إلى سنة 955 ه/ 1548 م، وذلك اعتمادا على كتابة عثر عليها في ثكنة باب عزون، التي حولت بعد الإحتلال الفرنسي إلى مستشفى عسكري ثم إلى ثانوية.

والواقع أن تاريخ بناء هذه الثكنات يختلف من ثكنة إلى أخري ، وباعتبار أن الحكم العثماني كان عسكريا فإن بناءها يعود حتما إلى النصف الأول من القرن 16 م، فترة استقرار الحكم العثماني بالجزائر، فبالإضافة إلى بناء خير الدين للعديد من الأبراج حول مدينة الجزائر، ومنها القصبة لحماية المدينة من الهجومات الإسبانية، تم بناء مساكن لإيواء المجندين الجدد.

وكانت هذه الثكنات خاصة بالعزاب من الإنكشارية دون المتزوجين وهي:

"دار الإنجشايرية بالخراطين "وهي أقدم الثكنات بالجزائر، أسست من طرف خير الدين، وتتألف من بنايتين متجاورتين.
ثكنة "صليح باشا" (صالح باشا أوده لرى)، وتوجد بقرب الميناء وتتشكل من 26 غرفة (أودة) تضم 1266 رجل يمثلون 60 أوجاقا.
ثكنة "علي باشا" (علي باشا أوده لرى)، وهي مجاورة لثكنة صليح باشا وتتكون من 24 غرفة تأوي 1516 فرد مكونين 55 أوجاقا.
"دار الإنجشايرية باب عزون" (باب عزون أوده لرى)، وتتكون من 28 غرفة (أودة)، يسكن بها 1611 إنكشاري وتشكل 63 أوجاقا.
الثكنة القديمة ( إسكي أوده لر)، أو الفوقانية ، وتقع في حي المدية وتتكون من 31 غرفة تضم 1089 مجند وتشكل 60 أوجاقا.
الثكنة الجديدة(يكي أوده لر)، أو التحتانية (السفلى)، وتوجد في نفس الحي وتتكون من 19 غرفة وتضم 856 جندي مشكلة 38 أوجاقا.
دار أوسطه موسى" (أسته موسى أوده لرى) وتقع قرب باب بحر (باب دزيرة) وبها 31 غرفة يشغلها 1833 مجند مكونين 72 أوجاقا.
"دار الإنجشليرية مقرون" (مقرر أوده لرى) " مقرر أودة لري"، وتتكون من 27 غرفة يسكنها 899 رجل يشكلون 48 أوجاقا.
ثكنة يالي ( يلي أوده لرى) وتقع في مقابل ثكنة " أوسطه موسى " وتسمى أيضا ب"دار الدروج" وتتكون من 15 غرفة تأوي 602 إنكشاري مشكلين 27 أوجاقا.

ولم تكن هذه الثكنات تخضع عادة لسلطة الداي، بل لسلطة الآغا، ورغم ذلك كانت أبوابها تغلق ليلا وتحمل مفاتيحها إلى قصر الداي مع مفاتيح المدينة، اتقاء لأعمال الشغب والانقلابات التي تقع عادة في الليل،وقد أشار Berbregge في مقاله السابق الذكر، أن ثكنة باب عزون كانت مركزا دائما للثورات وكذا ثكنة الخراطين القريبة منها.

عرفت الثكنة في الجزائر ب "دار" وعرفت الغرفة (الأودة) ب"بيت"، وكان معظم البيوت المكونة لثكنات الإنكشارية تسمى بأسماء الشخصيات التي عاشت بها في فترة التجنيد، كالدايات والبايات وغيرهم من الموظفين السامين في الدولة الذين عاشوا بهذه الغرف كمجندين قبل أن يتركوها للالتحاق بالأعمال الإدارية، مثل:" بيت كتشوك علي"، "بيت كتشك عثمان"، "بيت قارة بوصلي"، "بيت بابا حسن" وغيرها من الأسماء التي تدل على أن أصحابها عاشوا في فترة شبابهم بهذه الغرف، وكان يسجل ذلك، رسميا، في وثائق تحدد موضع كل غرفة وتكتب الوثيقة على الشكل التالي: " 1199 ه ( 1784-1785 م) بيت سيدنا ومولانا محمد باشا في الجهة اليسرى في الطابق العلوي وتأوي أوجاق رقم 310". 

وكثيرا ما قام هؤلاء بإدخال تحسينات على هذه الغرف، ويسجل ذلك على لوح من الرخام يوضع فوق باب الغرفة، كما خصصوا لها أوقافا لصيانتها، وهو مافعله حسن بن حسين باشا ( 1211 ه/ 1796 م) بالنسبة للغرفة التي سميت باسمه (بيت دالي والي"بابا حسن") وتوجد بثكنة باب عزون. 

بالإضافة إلى الثكنات كان الإنكشاري يسكن الخانات، التي وصل عددها في مدينة الجزائر وحدها، إلى 30 خانا، ويمكن لهذه السكنات المشتركة أن تأوي حوالي 15000 ساكن معظمهم من السلك العسكري والغرباء عن المدينة.

الإنكشاري داخل الثكنة:


كانت الثكنة السكن الأساس للإنكشاري منذ دخوله الجزائر حتى زواجه أو وفاته، ولا مأوى له غيرها، لذا وفرت الدولة بالثكنة جميع المرافق التي يحتاج إليها المجندون وعلى رأسها المسجد أو المصلى ويخصص لكل وحدة إمام يؤم الإنكشارية في الصلوات الخمس، ومدرس يعلمهم القراءة والكتابة، وواعض يذكرهم بتعاليم دينهم حتى لا ينحرفوا عن المبادئ الإسلامية، فكان مسجد "سيدي رمضان"، مثلا، تابعا لدار الإنكشارية وقد أوقفت عليه وقفية لصيانته، كما وفرت لهم مختلف مرافق الحياة اليومية كالمقهى والمطبخ،وقد أ شاد الرحالةالأجانب بهذه الثكنات ومنهم Shaw الذي قال أنها رحبة ونظيفة ومريحة مجهزة بعيون للوضوء، وقد أوقفت على مختلف الثكنات وقفيات خيرية خاصة أنها، حسب حمدان خوجة، كانت قد تحولت في نهاية العهد العثماني إلى شبه دور للعجزة، حيث ضمت العديد من الجند المتقاعدين وأرامل الجند وأيتامهم.

ويتميز الإنكشاري بأناقته ونظافته، ولونه المفضل هو الأحمر، فكان يرتدي معطفا أحمرا وحذاء yemeni أحمرا وسروالا salvar أزرقا، وما يميز الإنكشاري عن غيره هو الشكل الغريب للباس الرأس، ففي حين يلبس الفرسان الطرابيش، كان الإنكشاري يلبس قلنسوة طويلة الذنب وعلى جبينه حلقة من المعدن تلصق بها ملعقة من الخشب، أما أيام الحرب فيلبس الجميع خوذات حديدية.

بهذا يمكن تصور مدى بساطة وتواضع حياة الإنكشاري في الثكنة ومدى حرص حكومة الجزائر على توفير الحياة الكريمة للمجند بشرط أن لا يتجاوز ذلك حدود الحياة العسكرية الخشنة حفاظا على تكوينه العسكري.

ألقاب الجند ورتبهم:


يمر الإنكشاري خلال حياته العسكرية بعدة مراحل تبدأ بمرحلة التعلم وهي المرحلة التي يكون المجند فيها تلميذا لا رتبة له، وكان ذلك ضمن عملية "الدفشرمة"، وكان التلميذ يحمل لقب "عجمي أوغلان"، ثم ينتقل إلى رتبة "يولداش" Yoldach وهي كلمة تركية تعني " الرفيق" أو " الزميل "، وتطلق على الجندي البسيط، ويبدأ الإنكشاري عمله في الجزائر من هذه الرتبة، فيقضي ثلاث سنوات حاملا لقب "يني يولداش" أي الجندي الجديد، ويوضع تحت تصرف المجندين القدماء لتدريبه على حياته الجديدة، ثم ينتقل إلى "إسكي يولداش" ومعناها الجندي القديم، وهذا قبل أن يتدرج في الرتب العسكرية إلى أن يصل منصب "آغا الإنكشارية" (يكيجيري آغاسي) ومعناها قائد الإنكشارية وهي أعلى رتبة في هذا الجهاز العسكري، قبل أن ينتقل صاحبها إلى السلك الإداري، حيث يتولى منصب الخزناجي ومنه إلى أعلى منصب في الإيالة وهو منصب الداي (الباشا) وكانت الأقدمية هي مقياس هذه الترقية في أغلب الأحيان، وإن تدخلت أحيانا اعتبارات أخرى، مثل الكفاءة و الوساطة وأحيانا عن طريق القرعة أو مجرد لعبة حظ، ويأتي تفصيل هذه الرتب حسب "هايدو" Haédo كما يلي:

اليولداش، الجندي البسيط.
أوداباشي، عريف (قائد الغرفة).
أوطراك، مستشار الآغا.
البادوشا، حرس خاص، 2 للباشا و 2 للآغا.
الصوطاجي، مرافق للباشا.
مور بولوك باشي، واسطة بين الآغا والباشا.
ياياباشي، مرافق للباشا في صلاة الجمعة و عددهم 20 مرافقا.
باش بولوك باش، أقدم بولوك باشي.
كاهية الآغا، نائب الآغا.
الآغا، القائد الأعلى للإنكشارية.

ويطلق لقب "الآغا" على عدة مناصب إدارية وعسكرية في الآستانة أما في الجزائر فهو لقب، أطلق على عدد محدود من الموظفين معظمهم من الجيش منهم قواد الجيش في المقاطعات وأبرزهم آغا الإنكشارية وهو القائد الأعلى للجيش وآغا السباهية وهو القائد الأعلى للفرسان والمناطق الداخلية (آغا العرب) ولا يحتل هذا الأخير نفس أهمية آغا الإنكشارية، ويطلق على الآغا إسم "آغا الهلالين" (إيكي آي أغاسي) وذلك إشارة للفترة التي يشغلها وهي شهران.

وللآغا الذي يكون دائما من الأتراك، مكانة محترمة من طرف الجميع، حتى من الباشا نفسه، وهو المسؤول الوحيد على الإنكشاري، الذي لا يسمح له بالالتجاء إلى الباشا للشكوى، ومن فعل ذلك يعاقب من طرف الآغا، وحتى الباشا نفسه كان يلتجئ إلى الآغا إذا ما أراد أن يشتكي من تصرفات الإنكشارية ولا يحق له معاقبتهم دون العودة إلى الآغا، أما إذا اشتكى الإنكشارية من الباشا فإن الآغا يقوم بحل المشكل دون الرجوع إلى الباشا.

والترقية إلى رتبة الآغا تأتي بالأقدمية إلا أن تغييره يأتي بسرعة ولأتفه الأسباب أو بدون سبب ليصل إلى المنصب من يليه في الأقدمية.

والواقع أن الرحالة والباحثين عجزوا عن إعطاء معنى موحد للرتب العسكرية في النظام الإنكشاري، لذا كانوا يقدرون هذه الرتب والمناصب حسب مختلف المصادر التي لم تتفق حول ترتيب موحد.

كما أن الخدمة العسكرية للمجند تدوم 10 سنوات ثم يختار البقاء بالجزائر أو العودة إلى موطنه الأصلي بنفس الطريقة التي أتى بها أي عن طريق وكيل الجزائر بموطنه، والذي يتكفل بإعادته مع إعطائه شهادة من الدولة الجزائرية بأنه سرح من الخدمة، وتكتفي الدولة بمنحه بعض الهدايا أما الذي يبقى بالجزائر فإنه يحتفظ براتبه.

مرتبات الإنكشارية:


كان الأتراك والكراغلة المقيمين بالجزائر يحصلون على مرتبات، سواء كانوا ضمن صفوف الإنكشارية أو خارجها، ويقدر أقل أجر، حسب التشريفات، 14 صايمة (الصايمة = 0.18 فرنك تقريبا)، أما أعلى أجر فيقدر ب 160 صايمة، في حين يقول Shaw أن الأجر القاعدي للإنكشاري يساوي 275 أقجة ( 4.59 فرنك)، وأعلى أجر يساوي 60 ريالا كل شهرين (هلالين) ويزيد الأجر حسب الأقدمية، وبعد 12 إلى 15 سنة يصل الأجر إلى أقصاه.

ويتكفل الباب العالي، عادة ، بنصف مرتبات الجيش (العلوفات) والنصف الآخر يدفع من مداخيل الإيالة والتي تتكون من:

الضرائب التي تجمع داخل الجزائر كالأعشار والزكاة واللزمة وضريبة العقار.
كراء أراضي الدولة.
الهدايا التي تأتي من البايلكات (الدنوش).
ما يدفعه الأجانب مقابل إرساء سفنهم في الموانئ الجزائرية.
هدايا القنصليات في المواسم والأعياد.
ما يدفعه الأجانب مقابل الامتيازات التجارية.
غنائم البحر.

وتقدم الأجور بدار الباشا في احتفال كبير يحضره الداي وكبار الضباط والموظفين وجميع أفراد الإنكشارية وفي مقدمتهم آغا الإنكشارية الذي يجلس إلى يمين الداي ويقوم بتوزيع الرواتب على المسجلين في سجلات رواتب الإنكشارية ومنهم الداي الذي يكون
على رأس القائمة، وتتكون عملة الأجور من الذهب الخالص أو الفضة، ويبدأ التوزيع، الذي يقوم به الآغا، بالداي الذي يأخذ نفس أجر الجندي البسيط، ثم بقية أفراد الإنكشارية بالمنادات على أسمائهم من السجل الخاص بهم.

بالإضافة إلى الأجور حظي الإنكشاري، بجملة من الحقوق والامتيازات المادية والأدبية منها:

الإعفاء من الضرائب إعفاء تاما، وحق شراء المواد الغذائية بسعر أقل بنسبة 1/3 السعر الرسمي.
الحق في وجبات يومية مجانية، تتكون عادة من: (أرز، برغل، أربع أرغفة من الخبز ثلثه قمح وثلثين منه شعير، واللحم مرة في الأسبوع).
خضوعه لنظام قضائي خاص يحفظ كرامته، فحسب قانون السلطان مراد الأول، يجب أن يحاكم الإنكشاري محاكمة سرية من طرف ضباط الجيش وعلى رأسهم الآغا وتتراوح العقوبة بين السجن والجلد والإعدام، الذي كان ينفذ سريا في جنح الظلام وترمى الجثة عادة في البحر، إلا أن هذا الإجراء لا يحدث إلا نادرا.
حق التقاعد مع الاحتفاظ بمرتبه كاملا، حتى وفاته، وحرية اختيار مكان إقامته، ولم يكن للتقاعد، حسب القانون العسكري"عهد الأمان" الصادر بالجزائر، سنة ، 1162 ه/ 1749 م، سن محددة، بل قد يكون في سن الأربعين أو الخمسين أو الستين أي بعد مرور الجندي بجميع الرتب العسكرية أو إصابته بعجز يعيقه عن مواصلة مهامه، وهنا يعرف الإنكشاري ب" معزول آغا" ويؤذن له بالزواج والإقامة خارج الثكنة، كما يسمح له بممارسة النشاط الذي يختاره وكان الباشا يلتجأ أحيانا إليه للاستشارة، أما المجندون الذين ينسحبون من الجيش بدون عذر فيخصم منهم نصف الراتب، وإن كان ذلك لا يحصل إلا نادرا.

كما أن للإنكشاري إكراميات "بقشيش" تدفع له في المناسبات السعيدة، كالأعياد الدينية أو تولي سلطان جديد العرش، أو تعيين باشا جديد لحكم الجزائر، أو ازدياد مولود للسلطان، فعند وصول نبأ ولادة صبي للسلطان محمود، في صفر 1233 ه/ 1818 م، رفع الباشا حسين أجر إنكشارية الجزائر بصايمة واحدة وغيرها من المناسبات التي يحتفل بها رسميا في الإيالة، وتكون الزيادة دائما بصايمة واحدة في كل مناسبة، إلا في حالة الإنتصار في الحروب فتكون الزيادة ب 2.5 صايمة، وهو ما جاء في القانون العسكري الجزائري"عهد الأمان"، الذي يقول: " إن كل مظاهر الشجاعة التي تم القيام بها سواء في البر أو في البحر سيتم مكافأتها بزيادة في الأجر تقدر ب 2 صايمة ونصف ولا يمكن المطالبة بأكثر من هذا."

الجيش الإنكشاري و وضعه بالجزائر - الأصول التاریخیة

الجيش الإنكشاري و وضعه بالجزائر

القسم الأول  - الأصول التاریخیة للجيش الإنكشاري


نشأ الأتراك العثمانيون على البداوة والترحال إلى أن اعتنقوا الإسلام فتحمسوا له بقوة، وحديث العهد بالشيء شديد التمسك به والدفاع عنه، فما أن أعلنوا عن إنشاء دولتهم بالأناضول سنة 1299 م حتى رفعوا راية الجهاد ضد الدولة البيزنطية التي سقطت على أيدي سلاطينهم، سنة 1453 م، وتعود قوة هذه الدولة الفتية التي أصبحت، في زمن قياسي، إمبراطورية ضمت ثلاث قارات، إلى عدة عوامل أهمها:

  1. الحماس الديني، إذ اعتبر السلاطين العثمانيون أنفسهم حماة للإسلام وحملة لمشعله في زمن خاب فيه بريقه.
  2. الصفة العسكرية للسلاطين العثمانيين الذين قادوا الجيوش فكانوا قدوة لجنودهم في الشجاعة والصبر على المشاق على غرار قادة القبائل البدوية التي انحدروا منها.
  3. إنشاءهم لأول جيش نظامي في العالم وهو الجيش الذي عرف بالجيش الإنكشاري الذي كان عماد الدولة العثمانية وركيزتها الأولى في جميع فتوحاتها، ثم أداة حكمها في مختلف ولاياتها.


الإنكشارية نظام عسكري عثماني:


كلمة "إنكشارية" هي جمع لكلمة "إنكشاري"، وهي عبارة تركية تتكون من كلمتين:  "يني" وتعني الجديد و"جيرى" ومعناها النظام، أي النظام الجديد "يني جيري" Yeni çeri وهو المصطلح الذي أطلق على نظام الجند الجديد الذي أحدثه "السلطان أورخان"، ثاني سلاطين آل عثمان، 1326-1362 م، وكان ذلك بتوجيه من أخيه الأكبر، ووزيره الأول (الصدر الأعظم)، "علاء الدين" وقاضي العسكر " قرة خليل جندرلي"، الذي نصح السلطان العثماني بتكوين جيش نظامي اعتمادا على خمس غنائم الدولة من فتوحاتها بالبلاد الأوربية، لأن في ذلك ضمان لاستمرار قوة الدولة العثمانية وتوسعاتها، بعد أن اتضح عدم قدرة الفرسان على ضمان ذلك لقلة عددهم وعدم تفرغهم كليا للعمل العسكري، خاصة وأن الدولة كانت في توسع سريع.

تكونت فرق النظام العسكري الجديد بفضل عملية "الدفشرمة" أو "الدوشرمة"Devsirme، ومعناها اللفظي "يجمع أو يقطف" و هي عملية جمع الصبية المسيحيين وتربيتهم تربية عسكرية إسلامية بعيدا عن الأهل والوطن مما يجعلهم، عند الالتحاق بالعمل العسكري (الجهاد)، لا يعرفون أبا لهم غير السلطان ولا حرفة لهم غير الجهاد في سبيل الله، ويلتحق هؤلاء الصبية بالمدارس العسكرية في سن مبكرة، بين 10 و 15 سنة وأحيانا أقل من ذلك، مما يجعلهم سريعي الذوبان في النهج الإسلامي ، وكانوا يدربون في البداية على مختلف الأعمال المدنية وعلى رأسها البستنة، ولا يبدأ تدريبهم على الأعمال العسكرية إلا في سن 12 ويطلق عليهم اسم "عجمي أوغلان"، أي الصبية الأجانب.

وكانت عملية "الدفشرمة" تتم كل خمس سنوات ثم تقلصت الفترة إلى ثلاث سنوات ثم إلى سنتين، ثم أصبحت تتم كل سنة، ويجمع الصبية من مختلف المناطق المسيحية الخاضعة للدولة العثمانية وخاصة أوروبا الشرقية، مثل اليونان، مقدونيا، ألبانيا، صربيا، بلغاريا، البسنة والهرسك وأرمينيا، وكان التجنيد في البداية يشمل الأسرى الذين اعتنقوا الإسلام ومن العبيد وأبناء الشهداء من الأتراك والأطفال المشردين واليتامى من الأراضي المفتوحة ولقلة أعداد هؤلاء وحاجة الدولة للمزيد من الجند اتجه الحكام العثمانيون بقوة إلى عملية "الدفشرمة".

تخرجت أول دفعة من النظام الإنكشاري، حوالي سنة 736 ه ( 1335 م)، ولمباركتها عرضت على " الشيخ بقطاش " أو"حاجي بقطاش"، "مؤسس طريقة الدراويش البكطاشية"، الذي باركها بوضع يده على رأس الجندي داعيا للجيش الجديد بالنصر المبين، وتبركا به أمر السلطان بإلباس الإنكشاري قلنسوة من الصوف الأبيض تتدلى من وراءه رمزا لكمّ الشيخ حين تدلى على رأس الجندي عند مباركته، وهذا الشيخ هو الذي أطلق اسم "يني جيري"على الجيش الجديد، وقد حورت العبارة أثناء تداولها في الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية إلى " إنكشاري".

وتبركا بهذا الشيخ، بنيت أول ثكنة للإنكشارية قرب ضريح الشيخ بقطاش، ومنذ القرن 16 م أصبح ارتباط هذه الفرق بالطريقة البقطاشية رسميا، حتى أنه كان يقيم في ثكناتهم ثمانية من الطرقيين للقيام بالصلوات الخمس بالمجندين، كما كانوا يسيرون في الاحتفالات الرسمية أمام آغا الإنكشارية يرددون الأدعية.

وإذا كان السلطان "أورخان" هو مؤسس فرقة الإنكشارية فإن ابنه وخليفته، السلطان "مراد الأول" ( 1362 م- 1389 م)، هو صانع قوانينها وتنظيماتها، وهو ما عبر عنه صاحب "بشائر أهل الإيمان..." بقوله: "وأول وقت الربيع جمع (مراد الأول) عساكر ورَتب قوانين من جملتها رتب قاضي عسكر ولم يكن من قبل..."، ويضم قانون السلطان مراد ،الذي ضبط سلوك أفراد هذه الفرق مما جعلها، ولفترة طويلة، عماد الدولة العثمانية، 14 مادة:

  1. الطاعة التامة لقادة الجيش.
  2. وحدة الصف والإقامة.
  3. البعد عن البذخ وعن كل ما يشين الإنكشاري.
  4. الإرتباط التام بالشريعة الإسلامية والطريقة البقطاشية.
  5. عدم قبول غير المجندين عن طريق "الدفشرمة".
  6. خصوصية الإعدام بالنسبة للإنكشاري.
  7. الترقية حسب الأقدمية.
  8. لا يعاقب الإنكشاري إلا من طرف قائده (الآغا).
  9. يحال المعاق على التقاعد.
  10. يجب على الإنكشاري أن يحلق ذقنه لأن اللحية من حق الأحرار فقط.
  11. منع الزواج على الإنكشاري.
  12. لا يحق للإنكشاري الابتعاد عن الثكنة.
  13. لا يجوز للإنكشاري احتراف أي مهنة.
  14. يمضي الإنكشاري أوقاته في احتراف التدريب على فنون القتال.

وقد تم تنظيم المجندين في ثلاث مجموعات:


مجموعة تشغل في القصور السلطانية وتسمى ب " القابي قول" أي عبيد السلطان، ويختارون عادة من بين الأجمل والأحسن قامة للخدمة في القصور السلطانية بعاصمة الدولة و يكونون في مدارس خاصة وهي أكثر الفرق ولاء للسلطان .

مجموعة تعد لشغل المناصب الإدارية وتهيء لهذا الغرض.

فرقة المشاة، وهي الأكبرعددا، وتضم معظم المجندين للخدمة العسكرية، وقد أطلق عليها اسم "إنجشايرية" أو "الينجيرية"، وتقسم، حسب مخطوط "بشائر أهل الإيمان..." إلى [أربعة (كذا) فرق وهي الجماعة والبلوك والسيبان وعجمي أوغلان]

وكانت فرقة الإنكشارية هي أهم الفرق العسكرية، والنواة الأساسية لقوة الدولة العثمانية، بل أنها تمثل الجيش العثماني بصفة عامة.

خصوصية الجيش الإنكشاري:


لم تكن الإنكشارية مجرد نظام عسكري حسن التسلح والتنظيم، بل تميز عن بقية جيوش العالم بثلاث مميزات أساسية وغير عادية:

1- أنه الجيش الوحيد في العالم المكون أساسا من عناصر أجنبية ، فبينما كانت جميع الدول تشترط خلو جيوشها من العناصر الأجنبية، باستثناء المرتزقة، لتضمن ولاءها وإخلاصها للدولة ، اشترط العثمانيون خلو جيشهم من العناصر المحلية، حتى يضمنوا انضباطه وفعاليته.
2- أن مهمة الجيش الإنكشاري لم تكن تقتصر على العمل العسكري، بل تتعداه إلى المهام الإدارية والسياسية، وهي المهام التي كان يتطلع إليها المجندون ويعقدون عليها آمالا كبيرة لتحقيق المجد والثروة، حتى أن الأسر المسيحية كانت تدفع بأبنائها للانخراط في الجيش العثماني طمعا في وصولهم إلى أعلى المراتب في الدولة، منها الصدارة العظمى (الوزارة الأولى)، وهو ما تحقق لهم فعلا، إذ وصل العديد منهم إلى الصدارة العظمى بعد أدائهم المهام العسكرية وانتقالهم إلى العمل السياسي، ففي الفترة ما بين 1453 م و 1623 م تولى الصدارة العظمى في الدولة العثمانية 49 وزيرا لا يوجد بينهم سوى خمسة أتراك والباقي من ذوي الأصول الأوروبية المسيحية الذين ترقوا في صفوف الإنكشارية.
3- أن تنظيمه كان تنظيما اجتماعيا أسريا لا مثيل له في العالم، فقد شكل الجيش الإنكشاري أسرة واحدة متماسكة، تعيش حياة اجتماعية لا تختلف عن حياة الأسر ذات الروابط الدموية، أو هذا ما رمى إليه مؤسسوه، وهو ما دلت عليه التسميات التي أطلقت على أجهزته العسكرية و المستمدة من أدوات المطبخ منها:

أ- القزانkazan وهو " القدر الكبير" الذي كان رمزا مقدسا "قزان شريف" يعبر عن التماسك الأسري الذي كان يجمع أفراد الإنكشارية، إذ أن الطعام عادة هو الرابط الأساس الذي يجمع أفراد الأسرة الواحدة، وهو دعامة أساسية لولاء الفرد للجماعة، حتى أن الطعام بقي إلى اليوم شعارا للتماسك والوئام بين الأفراد، وهو ما عبرت عنه الأمثال الشعبية كقولنا في الجزائر، "كليت ملحك"، أي أن الملح ويعني به الطعام يجمع بيننا، وفي مصر، "بيننا عيش وملح"، أي أن الأكل الجماعي يمنع الخيانة ويفرض وفاء الفرد للجماعة، وهو ما هدفت إليه الدولة العثمانية من تكفلها بإطعام أفراد الإنكشارية من قدر واحد.  ولقداسة هذا الرمز الأسري كان قدر فرق الإنكشارية يحمل في الحروب، وعلى كل فرقة أن تحافظ على "قازانها"، أثناء المعركة، وإذا حصل وأن فقدت فرقة قدرها فإنها تتعرض لعقوبات معنوية كحرمانها من الخروج للاحتفال بالنصر، إذ أن ضياع القدر في الحرب يعد عارا وشؤما عليهم، فكانت المحافظة على القدر في نفس أهمية المحافظة على السنجق (العلم)، ومن عادات الإنكشارية حمل القدر والطواف به في الشوارع أثناء الاحتفالات الرسمية، وكان خروج القدر فرجة للمارة ومفخرة لأفراد الإنكشارية، أما الفرقة التي ضاع قدرها في المعركة فتحرم من الخروج في ذلك الاستعراض.
ب- الأوجاقUCAK (أوتشاق): ويعني لغويا " الموقد "، وهو محور تجمع الأسرة ومصدر دفئها، كما يعني المنزل أو الأسرة، ويطلق على الوحدات العسكرية، الكبيرة والصغيرة، وفي كثير من الأحيان يطلق على الإيالة العثمانية، ومعنى ذلك أن الإنكشارية
أسرة موحدة يجمعها "كانون واحد".
ج- " الصفرة ": وتعني "المائدة" التي يجتمع حولها الإنكشارية للأكل أو مناقشة أمور الدولة، وتطلق أيضا على الكتيبة التي تتكون عادة من 16 إلى 21 مجند.
د- "الأودة" أو "الأوضة": وتعني الغرفة، أو بالتحديد، غرفة النوم، وتدل على المأوى الذي يضم عادة أفراد الأسرة ، وكان لكل "أودة" قدرها (قازانها) الخاص وجب المحافظة عليه.

هذا بالإضافة إلى شعارات أخرى مثل الملعقة الخشبية التي كانت توضع على خيمة رئيس الإنكشارية (الآغا) وترمز إلى السلطة الأبوية، ومن عادة الإنكشارية حمل ملاعق ضخمة إلى جانب القدر الكبير والخروج بها من الثكنات متجهين إلى المواقع التي يعسكرون بها ويطوفون بها في المدينة، أثناء الاحتفالات الكبرى، وكان الناس يصطفون في الشوارع لمشاهدة ذلك الموكب العظيم لأدوات المطبخ.  هذا زيادة على الألقاب ذات الدلالة الأسرية، منها: "الشوربجي" أو "جورباجي" وهي عبارة تتكون من كلمة تركية فارسية الأصل وهي "شور" وتعني لذيذ و "با" بمعنى الطعام و"الشوب" يعني المرق أما المعنى العسكري فهو قائد الفرقة "الأورطة" ، وهو الذي يتولى توزيع الشربة أو الحساء على أفراد الإنكشارية، ويخضع لقيادته عدد كبير من ذوي الرتب العسكرية أمثال: الأودباشي ووكيل الحرج والبيرق دار (حامل اللواء) والآتشي باشي (كبير الطهاة)، وهو المكلف بحراسة السجن، وكان شعاره سكين كبيرة كان يحملها حيثما ذهب، ويتمتع الشوربجي بمنزلة محترمة جدا بين أفراد الإنكشارية والموظفين السامين في الدولة، وللشربة نفسها قداسة خاصة، حيث أنها تقدم للإكشارية أثناء توزيع الأجور وإذا رفض هؤلاء تناولها فذلك يعني عدم رضاهم بقيمة الأجر الذي منح لهم، والتهديد بالثورة.

وكذلك لقب "الداي " الذي يعني "الخال "، وهو فرد من أفراد الأسرة الموسعة، وكذا لقب "الآغا"، الذي يعني الأخ الأكبر.

ويعيد بعض الباحثين سبب تطبيق الدولة العثمانية لهذا النظام الأسري على أفراد جيشها إلى حياة الترحال التي كانت تعيشها القبائل التركية، التي تنحدر منها الدولة العثمانية، في أواسط آسيا.  ولعل هذا التلاحم الأسري هو الذي جعل من الإنكشارية قوة لا مثيل لها في التاريخ من حيث القوة والتماسك والتسلح والانضباط.

مهام الإنكشارية :


إذا كانت مهام الجيوش في العالم تقتصر على الأعمال العسكرية والحروب فإن الإنكشاري متعدد المهام، فهو جندي أيام الحرب، وجابي للضرائب من الريف أيام السلم، وفي نهاية حياته العملية يتحول الإنكشاري، في أغلب الأحيان، إلى الأعمال الإدارية، التي قد يصل من خلالها إلى أعلى المناصب السياسية في الدولة، كالصدارة العظمى (الوزارة الأولى) أو الولاية على رأس إحدى الولايات العثمانية أو حاكما (بايا) على إحدى مقاطعاتها، وغير ذلك من الوظائف الإدارية السامية التي تدر على صاحبها أموالا طائلة وجاها كبيرا.

استمر العمل بنظام "الدفشرمة" لتنمية الجيش العثماني، حتى سنة 1676 م، تاريخ إلغائه في عهد السلطان "محمد الرابع"( 1641- 1687 م)، ليحل محله نظام التجنيد عن طريق التطوع، والذي يخضع عادة للكثير من الإغراءات المادية والأدبية، ففي سنة 1568 م سمح لأبناء الإنكشارية المتقاعدين، بالدخول في سلك الإنكشارية، وفي 1594 م، سمح للعناصر المسلمة بالدخول في النظام ولا يشترط في ذلك سوى اللياقة البدنية والتطوع، وبذلك بدأ نظام "الدفشرمة" يفقد وزنه إلى أن توقف العمل به نهائيا.

وإذا كانت جيوش العالم تضعف ويختل نظامها بدخول عناصر أجنبية ضمن صفوفها فإن الضعف بدأ يدب في أوصال الجيش الإنكشاري بدخول العناصر المحلية إلى هذه المؤسسة العسكرية.

والواقع أن الإنكشارية بدأت تعلن عن عصيانها وتمرداتها منذ وفاة السلطان "محمد الفاتح" ( 1451-1481م)، حيث قاموا ، ولأول مرة، بقتل الصدر الأعظم "محمد قرمان باشا"، بتهمة إخفائه نبأ وفاة السلطان و تنصيب ابنه الأصغر الأمير "جم" على رأس الدولة، وعمل الإنكشارية على تنصيب السلطان "بايزيد الثاني" ،الذي زاد في أعطياتهم فبلغت 2000 أقجة لكل إنكشاري، ومنذ ذلك التاريخ بدأ أفراد الإنكشارية يفرضون سلطانهم على الدولة فأرهبوا الحكام وتدخلوا في تولية وعزل الوزراء والولاة، بل تجاوزوا ذلك إلى العمل على الاستيلاء على الحكم في عدد من الإيالات العثمانية، منها الجزائر سنة 1659 م ، تاريخ استيلاء الآغواة (قادة الإنكشارية) على الحكم.

هكذا كان الجيش العثماني، حتى القرن 17 م، أكثر الجيوش تنظيما وانضباطا في العالم وعاد إليه الفضل في جميع الفتوحات التي قام بها السلاطين العثمانيون، قبل أن يدب فيه الضعف، بعد فتح أبواب الانخراط فيه من مختلف الأراضي العثمانية، فزاد عددهم وقل مردودهم، فقد تضاعف عدد الإنكشارية من 12.000 مجند في عهد محمد الفاتح ( 1451-1481م) إلى 200.000 مجند في عهد السلطان محمد الرابع، (1648-1687م)، كان معظمهم لا ينتمي إلى هذه المؤسسة العسكرية إلا اسميا، حيث تحول عدد كبير منهم إلى الحياة المدنية فمارسوا مختلف الأنشطة خارج نطاق العمل العسكري، وهو الأمر الذي جعل التربية النموذجية للإنكشاري تتبخر، وتحول الإنكشاري إلى مجرد موظف حكومي لا يهمه من منصبه غير الراتب الشهري (العلوفات)، وكثيرا ما كان الإنكشاري يبيع صك أجره الشهري للمرابين اليهود مقابل مبالغ مالية أقل من راتبه، وقد زاد من فساد النظام الإنكشاري انتشار البطالة في صفوف الإنكشارية إثر توقف الفتوحات في أوربا وتفشي ظاهرة تعاطي الخمر بين أفراده، بعد وفاة السلطان سليمان القانوني وتولي ابنه سليم الثاني الحكم ( 1566 م)، فبدأ الإنكشارية يتخلون عن تقاليدهم الحربية وانضباطهم، وتفرغوا لجمع الأموال وشراء الألقاب والتدخل في الشؤون السياسية والإدارية للدولة، وبالتالي فقدوا قدرتهم الحربية وصاروا أداة تخريب وانقلابات بعد أن كانوا أساس بناء الدولة العثمانية وتوسعاتها، ولما تفاقم خطر الإنكشارية بدأ التفكير في التخلص من هذا الجهاز "البّناء الهدام"، وهو ما حصل فعلا، سنة 1826 م، على يد السلطان "محمود الثاني" (1808-1839م)، الذي تمكن من تصفية الجيش الإنكشاري في ما سمي بالواقعة الخيرية، التي قتل بها، حسب ما جاء في مخطوط "بشائر أهل الإيمان..." آلاف إنكشاري وفر الباقي إلى قشلهم (ثكناتهم) وتحصنوا فيها، وبعد فتوى حصل عليها السلطان محمود من العلماء تمت ملاحقة وقتل جميع الإنكشارية بالآستانة ونفي جميع من كان يميل إليها وألحق بهم دراويش البكطاشية، وعوضهم السلطان بنظام جديد يحاكي فيه النظام الأوروبي الحديث، وقد رفض هذا التغيير من طرف الإنكشارية بالولايات العثمانية وخاصة الأوربية، حيث قامت ثورات تطالب بالإبقاء على النظام الإنكشاري معتبرين التخلي عنه تخلي عن المبادئ الإسلامية.